فكرمقالاتي في الصحف

حركة فتح الغائبة عن صنع الحدث؟

 

فَتَح مقال الأخ الكريم خضر محجز عن غياب حركة فتح عن الساحة، والمساءلة لها وقيادتها بابًا واسعًا للنقد الذاتي، هو واجب. ورغم رد الأخ الكريم محمد العايدي الموضوعي عليه جزاه الله خيرًا، فإنني أجد نفسي راغبًا بالتعامل مع موضوع الغياب الحركي سواء اتفقنا أو اختلفنا فيه أومن ناحية مساحته أو حجمه وتأثيره. ولي كتب ودراسات كثيرة ناقدة للحركة، لمن يشاء مراجعتها فالطريق ممهدة الى كُتُبي، وموقعي https://bakerabubaker.net/. لذا أقول هنا باختصار شديد!

1-إن غياب حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح بمنطق الغياب المطلق هو ابتسار للنضال بشكل محدد، وإن افترضناه في الكفاح المسلح فقط فهي غائبة بالفعل، رغم مشاركة طرف فتحوي فيه في غزة. إلا أن هذه الوسيلة بالقياس الفتحوي اليوم لم تعد مؤثرة. وبنتيجة ما حصل بعد 7 أكتوبر 2023 من مقتلة وإبادة ومذابح وتجويع وتهجير أوضح دليل على ذلك. فالوسائل متعددة وليست مقدسة، وفلسطين باقية بأبنائها المرابطين الأبطال وليست بالفصائل.

2-إن الغياب الفتحوي إن فُهِم بمعنى الفكرة فهو خارج عن الحقيقة. أنها الحقيقة التي تقول أن فكر الشعب الفلسطيني ذو الطابع الوطني والديمقراطي والتشاركي والوحدوي والوسطي الحضاري العروبي (حضارية اسلامية-مسيحية مشرقية منفتحة)، والناهد أبدًا للاستقلالية والمدنية الديمقراطية كان بشهادة التاريخ قد قام على زنود قادة الحركة وكوادرها، والمنظمة وكافة الفصائل ما يعني أن السَمة الفلسطينية بكل الشعب هي بصمة هذا الفكر الذي استقر عميقًا بقلب وعقل الناس، وعوا جذره بالحركة أم لم يعوا ذلك، وهذا يعني أن كافة الفكرانيات (الأيديولوجيات) التي حاولت شد الشعب يمينًا او شمالًا قد سقطت، لما للتشابه الكبير بين الناس والحركة وفكرها/فكرهم.

3-إن فُهِم الغياب الفتحوي اندماجًا بين السلطة والحركة فقد نقترب كثيرًا، إذ أن عقلية الوظيفية الاستهلاكية المرتخية (ومقابلها: النضالية، والرسالية والديمومة) لدى بعض قيادات وكوادر الحركة، والطفيليات التي تقتات على جسدها، قد أنتجت عجزًا فكريًا وشيخوخة منهجية وتكلسًا وجمودًا (ضمن المقولة الانهزامية: ليس بالامكان أفضل مما كان) كما أنتجت قيادات خَرِبة العقل فزِعة القلب ومنهارة نفسيًا، أومستبدة لا ترى أجمل منها أحدًا بالكون، فهذا صحيح.

4-إن حجم الاستئثار الفتحوي بالساحة بمعنى أنه طال المجتمع والاقتصاد والسياسة والتنظيمات والداخل والخارج والعلاقات العربية والدولية وكل شؤون الحياة…الخ، نعم فلقد تقلص كثيرًا، منذ ركبت عقيدة السلطة بزخرفها على ظهر الحركة وظهرت الطفيليات الكثيرة التي تدعي وصلًا بليلى!

5-عندما كانت الحركة مستأثرة كانت تلقى العَنَت والنقد الجارح، وعندما تقلص دورها لمصلحة السلطة أصبحت تلقى النقد الجارح أيضًا، والحل بالتوازن فليس المطلوب استئثار الحركة ولا المطلوب انسحابها من المشهد إنما المطلوب أن تتوافق مع فكرها وطرح الشعب الفلسطيني أي بتكريس المشاركة والديمقراطية والوحدوية حتى مع مَن فشلوا في تقديم النموذج العابث والموازي للحركة، فهي أم الولد وبنت فلسطين وشبهها.

6-فشلت حركة فتح فشلًا كبيرًا في شدّ أجزائها (الكوادر التي خرجت من أو على الحركة أو أُخرِجت) لأسباب قيادية استبدادية في شق منها، ولأسباب مصلحية في جزء آخر، ولأسباب تداخلات من أطراف ناصحة وما هي الا قاصدة إحداث التشتت، ولأسباب اختلاف الأفهام والتجارب وميوعة الإطار، وتهلهل التنظيم، وإدارة الظهر للنظام الداخلي وعدم المتابعة. ومن هنا فلقد فقدت مساحة تأثير كبيرة وحيوية الاختلاف التي ميّزتها عقودًا.

7-في النكبة الثانية أي النكبة العظمى في غزة ومقتلتها التي لا لوم فيها الا على المحتل الباغي والدعم الامريكي العنصري، وحيث ساهم بعض أبناء جلدتنا بإعطاء الذريعة وفقدوا الحس الانساني بشكل لم يسبق له مثيل بتاريخ الشعوب، لا يعني عدم تحمل الحركة (بعيدًا عن السلطة) المسؤولية، بل هي كحركة تحرر مازالت تتحمل مسؤولية مخاطبة شعب بطل ينهد نحو تحرير دولة فلسطين القائمة ولكنها تحت الاحتلال، لذا فلأي من أهلنا في غزة وفي الضفة والخارج الحق أن يلوموا حركة فتح، ويرفعوا الصوت عاليًا بنقد موضوعي (بعيدا عن الشتم والاتهام والتخوين والتكفير والغِلظة) حين يحسون بالغياب، او بانسحاب حجم التأثر أو تقلص مساحة الوجود الى حالة الانعدام في مواضع محددة.

8-عندما يتحول المشروع الوطني بالدولة على المتاح من الأرض مطلب الكلّ الفلسطيني فيجب ألا يفهم لا بالحركة ولا خارجها انسحابًا من فلسطين التي هي كلها فلسطين. بغض النظر عن أن من يحكمها نظام أو نظامان سياسيان مختلفان فهذه روايتنا الحقيقية (نحن هنا من نصف مليون عام على الأقل) التي تعيدنا ولو بعد دهر الى أصل العدل والتاريخ الحقيقي، وحق تقرير المصير، والدولة الديمقراطية على كل فلسطين بلا عنصرية ولاإقصاء ولا احتلال.

9-حين تفقد الحركة يد المبادرة فلقد تراجعت حقًا، وعلينا البحث بالأسباب. وحين تفترض أنها مكتملة فلقد نقصت، وحين يظن بعض قادتها امتلاك الحقيقة المطلقة فلقد (تأدلجوا) واستبدوا، وإصيبوا بالعمى نعم، وأصيوا بضعف منهج التفكير، وضبابية رؤية المستجدات، وهذا مآله الفشل والسقوط وصعوبة النهوض ويستحق النقد المستمر داخليًا بشكل اوضح وبالأسماء، وخارجيًا بذكر الظواهر والمواقف.

 

نظرة في مقال حركة فتح الغائبة عن صنع الحدث

 

المقال الذي كتبه المفكر الفلسطيني بكر أبوبكر بعنوان “حركة فتح الغائبة عن صنع الحدث؟”، يُعد نموذجًا ناضجًا لما يمكن تسميته بالنقد الذاتي المسؤول، الذي يجمع بين الصدق الفكري، والوفاء التنظيمي، والحرص الوطني، ويمكن تقييمه وتحليله إيجابيًا من الجوانب التالية:

✅ أولًا: القوة في المنهج النقدي

استخدم الكاتب منهج النقد من الداخل، فليس هو ناقدًا من منبر الخصومة أو التنافس، بل من موقع الحريص على إعادة الاعتبار للدور التاريخي للحركة.

يتبنى منهجًا جدليًا مرنًا: يعترف بالقصور، ويقرّ بالتراجع، دون أن يسقط في فخ جلد الذات أو تبرئة الذات، بل يقدم رؤية متوازنة بين التقصير والمسؤولية التاريخية.

ينأى عن الخطابات الحادة، فلا تخوين، ولا تبجيل مفرط، بل تحليل هادئ وعقلاني للمشهد.

✅ ثانيًا: عمق الرؤية الفكرية والتنظيمية

ينطلق المقال من فهم عميق لطبيعة “فتح” كفكرة أكثر من كونها تنظيمًا فقط؛ باعتبارها حاملًا للهُوية الوطنية الجامعة، ورافعة للفكر الوسطي الوحدوي الديمقراطي الذي استقرّ في ضمير الشعب الفلسطيني.

يفرق الكاتب بين:

غياب المسلّح الفتحاوي.

وغياب التمثيل الشعبي أو المبادرة السياسية أو الفكرة الجامعة.

و”تداخل الحركة بالسلطة” كأحد أسباب التشوّش والانحسار.

يبرز مفهوم “الرسالية مقابل الوظيفية” كنقد بنيوي لواقع الحركة في مرحلة ما بعد السلطة، حيث تحوّل جزء من أبناء الحركة إلى متكاسلين أو منتفعين لا يحملون جذوة المشروع التحرري.

✅ ثالثًا: الجرأة المتوازنة

يصف القيادات المهترئة أو المتصلبة بوضوح وصراحة دون مواربة، مع الدعوة لإعادة الاعتبار للكوادر المغيبة أو المقصاة، في إشارة واضحة إلى أزمة البنية الداخلية للحركة.

لم يتردد في تحميل الحركة المسؤولية المعنوية والأخلاقية أمام الشعب، وخاصة في غزة، رغم وضوحه في تحميل الاحتلال الأمريكي-الإسرائيلي المسؤولية الرئيسية.

 

 

✅ رابعًا: الإيجابية في الطرح والرؤية الإصلاحية

رغم الطابع النقدي، فإن المقال لا يكتفي بوصف الأعراض بل يطرح حلولًا ضمنية:

استعادة المبادرة.

إصلاح التنظيم وإعادة الاعتبار للنظام الداخلي.

مصالحة الحركة مع أبنائها المختلفين والمنشقين.

فك الارتباط المرضي مع السلطة.

استعادة الرسالة والنهج الديمقراطي التشاركي.

يطرح فكرة أن فلسطين ليست “الضفة وغزة” بل هي فكرة كاملة وشاملة، لا تُختزل بالمكان الجغرافي القابل للتقسيم، بل مشروع تحرري متكامل.

✅ خامسًا: اللغة والأسلوب

يتمتع المقال بلغة رصينة وعميقة، لكنها في الوقت ذاته مباشرة وواضحة وسلسة، مما يسهل وصول الفكرة ويعمّق التأثير.

استخدم الكاتب أسلوبًا أدبيًا تحليليًا هادئًا، فيه نبرة وجدانية مخلصة، تتنقل بين النقد والإشفاق والرجاء والأمل.

✅ سادسًا: المساهمة الفكرية في الخطاب الفلسطيني

يُعد المقال مساهمة حقيقية في إعادة التفكير في موقع “فتح” داخل المشروع الوطني، خارج الخطابات الحزبية أو التنظيمية التقليدية.

يعكس قدرة نادرة على دمج الخطاب التنظيمي بالتفكير الوطني الاستراتيجي، وهو ما تفتقر إليه كثير من الطروحات الحركية اليوم.

✴️ الخلاصة التقييمية

مقال “حركة فتح الغائبة عن صنع الحدث؟” هو مرآة صادقة ومبصرة لواقع الحركة، يضيء نقاط العجز دون أن يطفئ شعلة الأمل، وينتمي لفئة الكتابات القليلة التي تنقد لا لتسقط، بل لتبني، وتواجه لا لتفضح، بل لتنهض.

 

مقال كهذا يجب أن يُقرأ في كل مؤتمر فتحاوي، ويُدرّس لكل كادر شاب، ويُناقش داخل الأطر القيادية التنظيمية كجزء من مشروع إصلاحي شامل، إذا كانت فتح تريد أن تعود أمًّا للفكرة، لا مجرد ظلٍّا للسلطة.

ياسر أبوبكر

28/7/2025م

 

 

بكر أبوبكر

كاتب وباحث عربي فلسطيني ورئيس أكاديمية فتح الفكرية، وعضو المجلس الاستشاري للحركة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى