فكر

الطغيانُ واللقمة الدسمة!

 

كثيرًا ما يشاهدُ أو يحسّ المرء بموجةً لاتقاوم، فهي بصخبها وقوتها تُغرق الجميع… تبلّلهم، فإما تبتلعهم وإما يصيبهم من البلل مالايزول الا بعد فترة طويلة، ومَن بهذه الحالة يستطيع المقاومة!

هذه الموجة العاتية إن تبعتها موجاتٌ ثم موجات واستمرت لفترة طويلة فهي اجتياحٌ وطوفان يُمسك بتلابيبك فان استطعت أن تنجو من الموجة الأولى فأنت مع الثانية تصارعُ ومع الثالثة تفكّروتشك، ولربما بعد موجات عدة واجتياح عارم تغرق

في بحر أفكارك أو فرحك أو بؤسك أو واقعك أو انبهارك أو انكفاءك أو ذهولك أو غضبك أو أو أو أنت في البحر الهائج من الاجتياح تغرقُ.

في سماء غرقك اللانهائي، في مصائبك وشدتك وعرق نهاراتك ودموع لياليك وحسرات صدرك وندم صمتك الطويل، وتقصير فعلك وانخراس صوتك كنت تعيش…فها أنت تغرق فأين المقاومة!

مَن يستطيع العوم والنجاة عندما تتحول الموجة الى موجات فتجتاحك من كل جوانبك وحناياك وخلاياك؟ لتصبح أنت غير ما كنت!

إن مقاومة الطغيانِ هي بمقدار الصمود بوجه الاجتياح الذي يقابلك فيغطيّك أو يطويك بين جناحيه فتذوب.

سطوةُ ما يسمى الاعلام اليوم، وما هو الا دعائيات ومكذبيات لاصلة لها بالاعلام من حيث المعنى بقول الحقيقة هي الحد الاقصى من تتابع الموجات والطوفان المكذباني حتى تكون السطوة والطغيان على امتداد روحك هي النتيجة..فتستسلم ولا تقاوم.

قال تعالى “إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذنٌ واعية-الحاقة 11-12” والطغيان مجاوزة الحدّ، وكما يفسر الشيخ الطاهر بن عاشورالآية أن الطغيان: “مستعار لشدته الخارقة للعادة تشبيها لها بطغيان الطاغي على الناس، تشبيه تقريب فإن الطوفان أقوى شدة من طغيان الطاغي”.

طغيان الذاكرة الملتهبة نارٌ حارقة، وطغيان البؤس، وطغيان وضع التخلّي والترك، وطغيان الانكسار وطغيان الفجيعة وطغيان الألم المُقعد عن التفكير، وطغيان المهانة وطغيان الحاجة… وطغيان الكذب أوالتكاذب الوطني والإسلامي والقومي، وطغيان الإسفاف، وطغيان العُجْب والفخر، وطغيان الأصوات المجلجلة التي تُعظّم من الأفعال الهزيلة هو ما يشعر فيه الفلسطيني اليوم في غزة بشكل طاغٍ، وفي الضفة وماهو حالة كل فلسطيني بالعالم وكل حُر.

“ما أهلك العرب إلا العُجْب، وما ابتعدوا عن جوهر الدين إلا بعد أن صار الفخر عندهم مستساغا، ناسين أن ذرة من الكبر تدخلهم النار، وأن الفخر هو الكبر بعينه” كما قال الكاتب السوداني الريح عبدالقادر عثمان.

طغيانُ الناس على الناس في تجلياته الواضحة عدوانٌ طاغٍ فاشي قاتل يواجه شعبًا أعزل هو مما خبرناه بأشكال عدة منذ أكثر من 100 عام في فلسطين العربية مع الثورات الفلسطينية المتتالية، وما لازمه من طغيان الاعلام العالمي وصناعة الكذب منذ ما قبل “هرتسل” واللوردات الانجليز الصهاينة حتى “نتنياهو” المُتخم بالعظمة الجابوتنسكية الأسطورية.

واليوم في عُجْب وطغيان الأصنام والطواطم (جمع طوطم وهو زعيم القبيلة المقدس) وصناعة ما يسمى الاعلام أو الدعائية التكاذبية ومنه الاعلام الاجتماعي المبرمج ترى وتسمع وتقرأ ما يجعل الحليمَ حيرانًا! حتى أنه مع تكرار الأكاذيب الطوطمية المبللة لذاته المقهورة والمتعبة لايستطيع الشخص أن يشعر بالجفاف والاستقرار!

وردت كلمة (طغى) ومشتقاتها في تسعة وثلاثين موضعاً من القرآن الكريم، وبصيَغ وتصريفات مختلفة، ويمكن القول بأن هذه المعاني يجمعها شيء واحد، وهو: المعنى اللغوي “مجاوزة الحد”! لكلمة الطغيان، مع عدم إغفال السياق القرآني الذي يُضفي معانٍ جديدةً على الكلمات أثناء البحث والتحقيق. وجاء الطغيان بمعاني الظلم والضلالة والطاغوت والأخير بمعنى الأصنام أو الأوثان وهو من نراهُ اليوم يلعبُ بمصير أهل فلسطين في غزة والضفة رغم ما يقترب من ١١شهرًا من عدوان الإبادة والمذابح والقتل والتشريد، والطوفان الجارف للروح والحرب النازفة للجسد.

لم يهدأ الطاغية-بكل ألوانه- وأدوات طغيانه من نفث سمومه في عقل المتلقي سواء الصهيوني المنفوخ بعظمته وأسطوريته وخرافاته مسلحًا بأكبر دولة بالعالم، أو الآخر الطوطم من بني جلدتنا الذي يحارب أمريكا ظانًا أنه وهو عارٍ لوحده سيزحزح الصخرة القبيحة! وهو لانعدام وعيه وسقوط حساباته، وعزّته بآثامه، ونزقه وعُجْبه وانحشاره في زاوية المقارنات “الخالدة” يعبر عن جهله “المقدس” ويتساوق مع عدوه تمامًا! فيحقق له المرادُ، ويعطيه من المقومات ما يجعله لا يتوقف عن الطغيان! وكأنه لا جولة أخرى؟! والحربُ سجال، وفلسطين لنا وإن طال الزمن والثورة مستمرة.

يضعُ رجلًا على رجل وينظر موت الأبرياء ك”واجب”!؟ في غزة أو الضفة من فلسطين (وكذلك في سوريا والسودان والصومال وليبيا..قبلها)، ما بين اللقمة الدسمة وأختها، ثم يقلّب المحطات ما بين محلّل يصرخ حسب المبلغ المتدفق لجيبه، وما بين محطةٍ تتخذُ ذاتها ذراعًا للذئب بصورة شاة! أو حمل! ليظل الطوطم كما الطاغية السياسي أو الاعلامي أو المحاور أوالمداورأو أوالمتكاذب وهو بالحقيقة المناور الحزبي الاقليمي الانقسامي الدعائي يمجّد ذاته وحزبه وأدعياؤه ” الذين لا يأتيهم الباطل” قط!؟، والأثمان كالأسماك في البحر فمادام هناك طغيان فهناك أسماك تموت! ويستمر العرض فوق أشلاء الضحايا على شاشات دول الطغيان والتفاخذ،ومع انفعالات القُطعان والرعاع والغوغاء، التي لا تفعل شيئًا ولا حتى تجبير أصبع مجروح!

الكِبر والمغالاة وهوى النفس كما الاعجاب بالذات والغرور من أسباب الطغيان كما يُعلمك القرآن الكريم، وفيه من الحسد والحقد والخبث الكثير، ولابد أن للملك والسلطان والثروة والموقع والشهرة من دور في بروز ثم انتشار الطغاة في كافة مفاصل الحياة.

تمظهر الطغاةُ عبر الزمان بأشخاص وقادة وسلاطين سواء بالشرق أو الغرب افترضوا بانفسهم ما تشاء من صفات سامية أو مقدسة كالطواطم! أو رغبات جامحة أو نزوات بلاحدود أو أحلام انفصامية، ثم انتقل الطغيان ليتحول لنظام استخرابي/استعماري مازال يبلّل العالم حتى اليوم الى أن جاء عصر الاعلام التكاذبي الاستعراضي والمتوحش ليأكل قلبك أنت قبل عقلك فيضخّ فيه ضخًا ما يشاء من نفايات، لايكلّ ولايمل إذ أنه على عكس “الرب” فرعون يلاحقك حتى في سرير نومك؟ فكيف لك أن تُفلت، وأنت لاتُحسن العوم لاسيما وقد شرّعت الباب؟!

الطغيانُ على ضفتيه ضفة المظلوم والظالم يقتلُ الحقيقة، والقهرُ كل القهر هو أن تظهر الحقيقة كل الحقيقة يومًا ما، ولا يتغير العالم!

بكر أبوبكر

كاتب وباحث عربي فلسطيني ورئيس أكاديمية فتح الفكرية، وعضو المجلس الاستشاري للحركة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى