فكر

حركة فتح أمام انطلاقتها القادمة! والمعضلة الوطنية؟

 

 

تعاني التنظيمات السياسية اليوم في فلسطين، وعلى رأسها حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح أساسًا من معضلات ثلاث تتلخص بالفهم، ثم الرؤية والاستراتيجية فالوعاء (التنظيم الحامل) .

وعليه يمكننا القول أن المعضلة الأولى هي في كيفية فهم طبيعة المرحلة الحالية هل هي مرحلة تحرر وطني أم هي مرحلة حكم ذاتي محدود باتجاه الدولة، أم مرحلة تكريس الدولة أم امكانية الجمع بينهما. أم ماذا؟

وفي جميع الاحوال تتوقف الرؤى عند المتخاصمين السياسيين في الساحة الفلسطينية عند حدود المشروعين المتصارعين الذيْن يعتبرهم المتطرفون والاقصائيون غير قابليْن للالتقاء بينما يرى المعتدلون أو الوحدويون امكانية الوصول بهما لمنطقة وسطى أي فهم طبيعة المرحلة أنها مرحلة تحرر وطني (ربما معدّلة)، وبالتالي ما ينشأ عن ذلك مقابل الفهم القائم على أنها مرحلة البناء والاستقرار نقيض مرحلة التحرر.

في الحالتين نشهد جدلًا فكريًا عميقًا، وأحيانًا عقيمًا حين يتم التعبير عنه  بكلمات قاسية أوشتائمية في كثير من الأحيان وعبر المواقف المتصادمة والمتضاربة بدلًا من النقاش والحوار والاستيعاب.

أشير الى أنني كنت قد نشرت مادة كاملة فيما سبق وقبل العدوان على قطاع غزة ككتيب تحت عنوان: معضلة الفصائل الوطنية  وأفول نجم التنظيم! اشتملت على ما هو مذكور هنا وزيادات، وما لا يختلف مع العنوان الحالي كما طلب الأستاذ واصل الخطيب، وعليه نكمل ونتساءل هل هناك من فهم مشترك، ثم رؤية جامعة ثم وعاء جديد يتجاوز القائم داخل المنظمات عامة؟

أي هل يوجد تيار عريض داخل كافة التنظيمات السياسية الفلسطينية –عابر للتنظيمات السياسية-يرى إمكانية الاتفاق على وسطية الفهم والرؤية والوسيلة الناجعة والقادرة على الاقتراب من بعضها البعض في سياق نسيج وحدوي لا يخشى كسر القوالب الجامدة، ويتخلى عن الأفكار المسبقة أو الاعتبارات العقدية أوالأيديولوجية؟ أو يتخلى عن الأنوية (الأنوية من طغيان الأنا سواء الذاتية أو الوالدية أوالحزبية) الاستبدادية التي محصلتها أفول نجم القضية الفلسطينية بيد أصحابها.

نفكر معًا

نحاول في هذه الورقة أن نفكر معًا ونفتح الباب العريض لعلنا نصل دون ارتهان لافتراضات مسبقة.

حين توجد الثورة أو حرب التحرير الشعبية ، أو حالة التحرر الوطني توجد حالة عدم الاستقرار وهدم للقديم المستقر، إنها حالة تهديد مطلوبة للوضع الفاسد القائم (الاستعمار أوالاحتلال، أوالظلم…)، ويوجد الغضب والكفاح والتعبئة والشحن بأشكاله السلمية أو العنفية الثورية، وحيث فُهمت المرحلة أنها بناء واستقرار، فالبناء نقيض الهدم للأسس القديمة التي تأتي الثورة لتقويضها، وبناء النموذج البديل.

من هنا وضمن فهم الهدم والبناء أوالمقاومة مقابل السلطة؟ يصبح التعامل مع العدو الرئيس (الاسرائيلي المحتل) والنقيض الثانوي (صاحب وجهة النظر الأخرى) وكأنهم سواسية وفق الفهم الحِدّي المتطرف بمعنى تصبح السلطة أوالحكم الذاتي أو مكونات الدولة (البناء) مستهدفة أحيانًا قبل وأحيانًا بعد التناقض الرئيس، وهو ما يسميه متطرفو الفصائل الفلسطينية وعلى رأسهم التيار  المتطرف في  فصيل “حماس” المؤمن بما يطلقون عليه مدرسة أومعسكر الفسطاطين! بمعنى أن المناضلين يقفون  مقابل الانهزاميين أوالمستسلمين، وعليه يأتي وصم المشاريع وأصحاب المشاريع، وأوعيتهم التنظيمية عامة بما يؤخّر أو يمنع الحوار الديمقراطي والتفكير الوسطي، أوالتلاقي.

فهم  المرحلية مقابل الجذرية

إن فكرة الفهم للمرحلة إن لم تكن متوحّدة ومنضبطة ضمن آليات ونظُم ومشاريع يصبح الانسان العادي بعد العضو التنظيمي في حالة تيهٍ فلسفي سياسي بين النظرية والتطبيق وبين الشعارات المرفوعة والتطبيق العملي. حيث نجد عمليًا سلطتين في كل من الضفة مقابل قطاع غزة وكلتيهما تقومان بنفس الدور الملتبس في عدم تطبيق لأي من الفهمين وفي محاولة ثبت فشلها بالتجربة للدمج بينهما.

فكرة المرحلية لم تكن فكرة جديدة في النضال الفلسطيني اليوم وإنما جاءت اجتراحًا فذّا للتعاطي مع الجذري مقابل ما أصبح المرحلي.

المرحلية منذ العام 1973 جاءت على إثر توقف جبهات القتال عن إطلاق حممها وفق ما صرّح به الرئيس المصري الراحل أنور السادات بأن حرب رمضان آخر الحروب، وبالتالي تخرج مصر ومعها الأمة العربية من المعركة الحربية للتحرير، ما يعني سقوط كل تنظيرات “هانوي العرب” أو الدعم العسكري العربي للمقاومة الفلسطينية وما أدى حكما لتبني شعار انتقالي يقول “المقاومة العسكرية تزرع والعمل السياسي يحصد” وصولًا لاعتماد منهج المقاومة الشعبية التي اجترحتها حركة الجماهير الفلسطينية في الوطن منذ العام 1987م عبر انتفاضته الكبرى الأولى حديثًا  تحت دعم أمير الشهداء خليل الوزير.

إذن جاءت فكرة المرحلية ليس للقضاء على فكرة الجذرية وإنما نتيجة فهم صادق للمرحلة وكيفية التعاطي معها وفق الموازين تلك القابلة للتغيير  ]الانسان أحد أدوات هذا التغيير[ وضمن فهم معادلة المعسكرات والصديق والعدو والتناقض الرئيس والتناقض الثانوي، وهو ما كان واضحًا في تنظيرات مفكّر الثورة الفلسطينية خالد الحسن لفكرة إقامة سلطة فلسطينية على أي شبر يتم تحريره أو استرداده ليس باعتباره الغاية أو الهدف النهائي وإنما باعتبارها المدخل لفلسطين كل فلسطين وهو ما سار عليه الراحل ياسر عرفات الذي كان مسكونًا بفلسطين كما قال عنه الإسرائيليون ذاتهم.

المرحلية التي فُهمت من تيارات اليسار حينها (كتلة الرفض)، ثم من اليمين الديني أوالاسلامويين لاحقًا بعد الصحوة من حالة السُبات أوالمَوات (ما يقرب 30 عامًا) والتأخر بالفعل أي الى العام 1988 فُهِمت  المرحلية أنها استسلام كلي بمعنى التخلي عن الوطن لصالح شبه الدولة أوالدويلة، وهو ما أنكره بتاتًا ياسر عرفات الذي اعتبر “اتفاقية أوسلو” منعرجًا إجباريا أوكما كان أسماهُ المفكر صخر حبش (ممرًا إجباريًا) وصولًا لتحقيق الاستقلال الفلسطيني في حدود 1967 وهذه هي الأهداف المرحلية التي عبّر عنها خالد الحسن بالقاصرة إن لم يكن جذرية التناول النهائي هي الخطوة الصحيحة.

المرحلية ظلّت فكرة مُدانة وصِنو الاستسلام-وقبلها وأثنائها كان الحل السياسي برمته يعتبر استسلامًا- الى أن بدأت كافة التنظيمات الفلسطينية تتبناها ما حصل منذ وثيقة الأسرى عام 2006 ثم بصراحة ووضوح في وثيقة “حماس”عام 2017 في الدوحة، ثم في اجتماع أمناء الفصائل مع الرئيس أبومازن في 3/9/2020 بين رام الله وبيروت.

الرؤية والاستراتيجية

المعضلة الثانية لدى فصائل السياسة هي معضلة الرؤية والهدف ومعضلة السِراطية (الاستراتيجية) ومعضلة بناء البرنامج الوطني الشامل  والمتفق عليه بما يمثل الاجماع الوطني المنشود.

إن كانت طبيعة المرحلة وفهمهما واضحًا لدى كافة الأطراف فإنه بالضرورة ينشأ عنها بناء استراتيجية عمل (طريق للعبور أو جسر للوصول) ورؤية تتوافق مع طبيعة الفهم، أكان مرحلة تحرر وطني أم مرحلة بناء على فرضية أن الفهم منطلق من هذين المنظورين الأوحدين كما أسلفنا.

ولا يفيد هنا فكرة عرض الخيارات وكأنها بدائل! وهي بالحقيقة نقض للفهم الأولي.

بمعنى لا يُفهم عقليًا التخلي عن رؤية تحقيق الاستقلال لدولة فلسطين القائمة بالحق الطبيعي والتاريخي (حسب اعلان الاستقلال 1988م) والقانوني (دخلت الأمم المتحدة عضوًا مراقبًا عام 2012م) بالقول كما هو حاصل اليوم-بعد انسداد الأفق السياسي- أن الخيارات أمامنا  كثيرة؟ منها: إما بالعودة لتقسيم العام 1947 أو خيار الدولة المواطنية الواحدة في فلسطين كلّها، وكأننا نملك أن نختار تمامًا  أي خيار! كما لو كنا في مجمع تجاري حافل بأصناف من البضائع تنتتظر فقط أن نلتقطها؟ أوكأن القرار منوط بنا نحن فقط؟

لايستقيم التعامل مع الرؤى الشمولية ضمن فهم المرحلة. فرؤية الاستقلال مختلفة الاستراتيجية عن رؤية الدعوة للعودة لمرحلة العام 1947 وقرار التقسيم، أي بتبني شعار أو سراطية (استراتيجية) جديدة أو رؤية، قبل تحقيق الاستقلال لدولة فلسطين المحتلة بعد كل سنوات النضال هذه والاعترافات العالمية بالدولة التي فاقت الاعترافات بها، تلك بدولة الكيان الصهيوني؟

إذ كيف يستقيم عقليًا التخلي عن كل هذه التضحيات والنضالات ضمن رؤية انسداد الأفق السياسي دون العودة للمربع الأول أي طريقة فهم المرحلة. ودون الوعي بأن الأقل يشكلُ مدخلًا للأكثر أو الأصعب أوشبه المستحيل -في ظل تخلخل القوى- الى امكانية التحقق أي أن يكون تحقّق الاستقلال لدولة فلسطين (ما يسمى بحل الدولتين) مدخلًا لتحقيق متطلبات الفكر الجذري.

فلا بدائل هنا أو خيارات متاحة استراتيجيًا، وإنما صحيح الفهم يأتي ضمن حالة تتالي نضالي قد تقع أو لا تقع استنادًا على طبيعة السراطية (الاستراتيجية) المتبعة.

حالة التتالي في الرؤى والهدف يجب أن يكون مرحلة نحو دولة المواطنية لكل الوطن، نعم ولكن لا يمكن الاستغناء عن هذا الهدف المرحلي بدلالة  شعورنا الحالي بالفشل، ونحن جيّشنا كل الدنيا باتجاهه وحتى كافة الفصائل التي كانت رافضة لهذا الحل!

وكأننا –حال التخلي عن هدف الاستقلال لدولة فلسطين بحدود حزيران-نسقط 50 عامًا من الدماء والجهود والنضال والإنجازات، ونبدأ من جديد! فليس هكذا تورد الإبل.

الأجدى عقليا وبالفهم السياسي والتحليل أن ننتهي أولًا من المرحلة الأسهل ولو نظريًا (استقلال دولة فلسطين بحدود 1967م)، والمتفق عليها عالميًا، لنبدأ المرحلة التالية الأصعب أي مرحلة السعي نحو الدولة الديمقراطية المدنية أوالدولة المواطنية الواحدة في فلسطين.

المقاومة الشعبية في الإطار الاستراتيجي

الوسيلة المشتقة من الاستراتيجية التي تضع الأهداف وترسم شكل الطريق قد تتخذ من بناء الدولة سُلّمًا لتخفيض مستوى التوتر العنفي، ولكنها لن تكون مُلامة حين يتم تصعيد المقاومة السلمية شعبيًا وسلطويًا وهو حقيقة الحاصل ولكن ليس بحده المؤثر والحاسم، بل بسياقة المنضبط والمحدود.

بمعنى آخر لوكانت الاستراتيجية الوطنية العامة لمجمل الفصائل المتخاصمة اليوم تنطلق من فكرة بناء أو التأسيس المستمر للدولة عبر ممر السلطة، فإن أسلوب المقاومة الشعبية السلمية يصبح قادرًا على تحقيق استراتيجية المواجهة وليس استراتيجية تعويق عمل السلطة (وفي مرحلة الدعوة لتدميرها كأولوية وأسبقية على مناهضة الاحتلال) أوالانتظار السلبي للمتغير الدولي بتقديم صكوك على بياض.

إن الحاصل اليوم بجناحي الدولة المرحلية المرتقبة أي في الضفة الغربية وقطاع غزة هو توظيف واستخدام للمقاومة الشعبية السلمية بشكل منفصل وغير منسّق وبشكل محدود وغير متصل، بل وتجد التنظيمات المتحالفة هنا أوهناك سواء تحت مسميات المقاومة  “الحصرية” أوغيرها، تنسحب أوتقترب ليس ضمن الهدف الجامع وإنما ضمن سياق القوى الاقليمية المؤثرة والمصالح الحزبية الأنانية.

إن المقاومة حال اعتمادها الكلّي من كافة القوى الوطنية يفترض ضبط فهم المرحلة أولًا، ثم يفترض الاتفاق على الاستراتيجية وصولًا للوسيلة الأنجع.

وبفرضية أنها المقاومة الشعبية السلمية فهذا لا يتناسق مع الأعمال العنفية المتناثرة (هي نقيض شعار شركاء بالدم شركاء بالقرار)، ولا يتناسق مع أفكار التنسيق الأمني لدى الطرفين، ويفترض أيضًا أن تكون المقاومة الشعبية (وسيلة) خيارًا عامًا متفق عليه عمليًا وليس نظريًا أو للمماحكات الحزبية.

تصبح العوامل الخمسة لتصعيد المقاومة الشعبية السلمية استراتيجية السلطة والفصائل معًا.

*بتوسيع النطاق الجغرافي للمقاومة الشعبية السلمية، بمعنى توسيع مساحات الاشتباك الميداني أولًا

*وتوسيع حجم المشاركة الشعبية ثانيًا، وتضم العمال والطلاب والمزارعين والموظفين الحكوميين وغير الحكوميين…الخ

*وجعلها منهج عمل يومي وليست موسمية أو ردة فعل للأفعال المستعمرين الغزاة الإرهابية فقط ثالثا.

*ثم وجب دعمها ماليًا وتسخير كل الطاقات لانجاحها إعلاميا وجماهيريا وسلطويًا وعالميًا، باعطائها الأولوية

*ليكون خامسًا والضابط لها هو خطة العمل المشتركة التي تشكل السور الحامي لجميع الفصائل حيث الارتباط برؤية بقاء السلطة واستثمارها بما لايؤثر عليها دوليًا ضمن فرضية أنها المدخل الصحيح للاستقلال وعبر هذه الاستراتيجية.

استراتيجية المقاومة الشعبية بمنطق العمل الثوري العنفي الممزوج مع العمل السلمي لا تستقيم في الوضع القائم حاليًا وطنيًا واقليميًا وعالميًا، ويجب النظر لها جديًا من منظور المصلحة الوطنية، وليس من منظور المحاور الاقليمية الداعمة ماليًا أو لمصالحها في مواجهة الغرب، أو إشعالًا للمناكفات الحزبية والاتهامات المتبادلة بالتنسيق الامني والخنوع والاستسلام مثلًا  ما هو حرتقات حزبية ليست وطنية بالحقيقة.

الجميع مقصّر بهذا الجانب والطرفان الشرعي وذاك المفتك للسلطة بالسلاح يمارسان التنسيق مع الإسرائيلي يوميًا، ويتم استخدام السلاح (سلاح المقاومة في غزة تحديدًا) ليس كأداة عمل استراتيجي ضمن رؤية مرحلة التحرر الوطني الجامعة، المتحررة من الحكومة أوالسلطة وإنما لخدمة مطالب “السلطة القائمة” فعليًا في قطاع غزة، أي حكم “حماس”، وهذا توظيف غير وطني بالحقيقة وإنما حزبي، وتقليص بشع للأهداف الوطنية وتقزيمها “معيشيًا” حيث لا تجد فرقًا بين التنسيقات المدنية والأمنية إلا بالشكل أو الشِدّة، أومن فوق الطاولة أو تحتها، لدى السلطة الشرعية ولدى سلطة “الحسم” والقهر العسكري في غزة.

إن تبني مشروع أو فهم المرحلة أنها مرحلة تحرر وطني بمنطق فتح الخيارات كلها التي من ضمنها المقاومة العسكرية لا تستقيم مع وجود السلطة/الحكومة التي عملها البناء كما أسلفنا وحالة الخلط بين الفهمين لم تنتج الا طفلًا مشوهًا.

حاول الراحل الكبير ياسر عرفات استثمار السنوات الخمس المحددة لاتفاق أوسلو (1994-1999م) وصولًا للتفاوض على المرحلة النهائية، بتوطيد أركان السلطة كمقدمة للدولة دون أن يزيح من ذهنه بتاتًا فكرة التحرر الوطني الثوري أو العنفي، فلما أغلقت أبواب المرحلة النهائية ل”أوسلو” نتيجة التعنت الصهيوني واشتراطاته المذلّة في (كامب ديفد 2 عام 2000م) كانت المقاومة وبشكليها هي النتيجة. واستشهد  أبوعمار عظيمًا ضاربًا أروع نماذج البطولة والفداء، (وكما قال وصدق: يريدونني أسيرًا أو طريدًا وأنا أقول شهيدًا شهيدًا شهيدًا)، ولكننا تعلمنا صعوبة التوفيق بين الفكرتين أوالفهمين فيما بعد.

اليوم هل تستطيع أو ترغب قيادة الفصائل الفلسطينية التي تفهم المرحلة ولو نظريًا بمنطق التحرر الوطني أن تتخلى عن سلطتها أوسلطتيها؟ وزُخرف الكرسي؟!

هي إن فعلت فلقد حلّت التناقض الرئيس للفهم! وبالتالي الاستراتيجية والوسيلة، ولكنها تكون قد وضعت نفسها تحت مقصلة السلطة القائمة الأخرى! إلا إن كان هناك التوافق الوطني الشامل بالانتقال من مرحلة الاعتماد على السلطة (الاستقرار) الى مرحلة التحرير الوطني (اللااستقرار) بكل مستلزماتها من تضحيات بشرية ومادية، ومقاومة بأشكالها المختلفة والتي قد تكون أول ضحاياها البناء الوطني المتمثل بهياكل الدولة القادمة الممثلة اليوم بالسلطة، وبالطبع بالالتفاف الدولي أيضًا.

التنظيم السياسي (الوعاء)

المعضلة الثالثة هي معضلة الوعاء الحامل للفهم، ثم الرؤية والاستراتيجية أي مشكلة الأطر التنظيمية (الأوعية الإدارية البشرية المنظمة للأهداف والوسائل والحوار الديمقراطي) وهي هنا ثلاثة رئيسة تتمثل بإطار منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، وإطار أجهزة الحكم الذاتي الفلسطيني أوما نسميها السلطة الوطنية الفلسطينية سواء في غزة أو تحت سلطة “حماس” الأمر الواقع في غزة-مع الفارق- الواقعتين تحت الاحتلال الإسرائيلي الكامل.

وثالثًا في المنظمات (الفصائل الفلسطينية) فهل الفصائل الفلسطينية اليوم، بسياساتها وقياداتها وهياكلها الداخلية الحاملة، مؤهلة أو قادرة على حمل عبء الفهم والاستراتيجية على فرضية إقرارها؟… ودون ذلك في ظل الاحتراب اليوم خرط القتاد؟

إن إطار منظمة التحرير الفلسطينية رغم الهلهلة التي يعيشها، والشيخوخة والضعف والنسيان التي يعانيها منذ أقيمت سلطة الحكم الذاتي عام 1994م وابتلعتها إلا أنها مازالت عالميًا وتنظيميا (فصائليًا) تحظى باجماع على صلاحيتها كإطار معترف به دوليًا وعربيًا-في ظل الاعتراف بدولة فلسطين عالميًا دون تحقيق ذلك على الأرض- ومن هنا فإن التخلّي عن شرعيتها في ظل تزعزع وضع السلطة (أو السلطتين الشرعية وتلك المفتكة) يصبح انتحارًا سياسيا لأن حكومات الكيان الصهيوني تهدّد ليل نهار بإزالة السلطة الوطنية عن الوجود عدا عن “خيارات” سبق وطرحت -أو هدّد بها- من أقطاب بالسلطة الفلسطينية بأنها يجب أن تُزال (سنسلم المفتاح)، فماذا يتبقى للإطار الجامع إن كانت منظمة التحرير الفلسطينية خارج المعادلة والاحتضان؟ وما يتوجب عمله فعلًا لاصلاحها ديمقراطيا ونضاليًا في ظل الفضل الكبير الذي حققته بالاعتراف العربي والعالمي وبناء الكيانية والحفاظ عليها حتى الآن.

دعني أقول أن المعضلة بين ثلاثية الفهم والإدراك المستند للمرجعية الفكرية الحاكمة أو الضابطة، والرؤية الاستراتيجية، والوعاء لا تتوزع على مساحة الفصائل بمعنى أن الفصيل “س” يفهمها كذا والفصيل “ص” يفهمها كذا، بل بالحقيقة هي معضلة عابرة للفصائل حيث تجد هذا التوزع بالفهم أوالحيرة أوالتفكر في تعريف المرحلة ثم بناء الاستراتيجية ومدى صلاحية الوعاء داخل كل تنظيم سياسي فلسطيني.

يمكننا أن نضيف هنا أيضًا مجموعة هامة ومتميزة وذات رأي يُحترم من تلك التجمعات أو القوى الفلسطينية الفاعلة التي ظهرت خارج إطار الفصائل المعروفة، وعبّرت عن نفسها في قوائم الانتخابات التي لم تجري عام 2021م.

أن امكانية التعاون أوفر حظًا حين تكاتف الأيدي المخلصة من كافة فصائل وتجمعات العمل الوطني  من امكانية الهدم ذاك المرتبط بالمصالح الشخصية ونزقها، وبتدخلات الاقليم البائسة والصراعات الدولية في المنطقة.

أما بالنقطة الثالثة من الأوعية وهي الفصائل الفلسطينية ومدى قدرتها كوعاء أوأوعيه على حمل الأمانة ومدى تحمل الأكتاف للفهم والرؤية الاستراتيجية، ففي ذلك الكلا م التالي لنا.

من المهم الإشارة لضرورة تحشيد الأشخاص حول فكرة ما، ثم تنظيم الطليعيين فيها. فالجماهير التي تسير سائبة بلا هدف موحّد هي جماهير قابلة للجذب والاستقطاب بين شتى الفِكَر المتناثرة وذات الدفق العالي حاليًا لسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والتي كلّها مسيّسة ومهدّفة.

إن تُركت الجماهير دون هدفٍ سامٍ أو هدف قومي/وطني جامع (قضية) فإنها قد ترتاح في منطقة الابتعاد عن المشاكل وتتموضع حيث تلبي حاجاتها الحياتية والشخصية فقط دون الاضطلاع بدور ما في بناء أوتطوير الذات واكتساب المرجعية من جهة، وتفتقد بالابتعاد عن الهدف الجامع عوامل التماسك بل وعوامل البقاء للمجتمع أو القضية التي من المتوجب أن تبقى حيّة في القلب والعقل والروح.

وهنا يظهر دور الطليعة من المثقفين والمفكرين والدُعاة، والسياسيين الجادين والكادرات المخلصة.

 

بكر أبوبكر

كاتب وباحث عربي فلسطيني ورئيس أكاديمية فتح الفكرية، وعضو المجلس الاستشاري للحركة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى