فكر

كيف كتبتُ غزةّ؟

 

في الحدث المفصلي للقرن الواحد والعشرين وهو كارثة القرن الممثلة بالمذبحة اليومية والإبادة الصهيوأمريكية المتواصلة في غزة وفلسطين داهمنا من الشدائد والأهوال ثلاثة!

أولها كان هول اليوم الأول يوم المباغتة والمفاجأة الذي ما كان للتالي من حيث الحجم والشدة والشراسة إلا بسببه كما يقول الإسرائيليون، وهو أذ كان طوفانًا ضد المحتل الصهيوني أفقده اتزانه كما أفقده وعيه فإن حجم المتفجرات التي أطلقها غلاة اليمين في قلوب وعقول قادة الكيان كان مهولًا حتى أنه قورن بما حصل بكثير من الأحداث الإرهابية والإجرامية في الحرب الأوربية (المسماة العالمية) الثانية ومنها في مدينة دريسدن الالمانية ونجازاكي اليابانية .

الهولُ الأول

إن هولَ اليوم الأول وما أوقعه من مفاجأة ومباغتة مهّد لليوم الثاني حيث الصدمة أخرجت اسوأ مكنونات النفس البشرية التي لم تتّعظ من المحرقة وأهوالها، فعاش الفلسطينيون لشهور تسعة -حتى الآن- أسوا أيامهم منذ النكبة عام 1948م.

لقد كان هول المفاجأة بداية

إلا أن هول الرد الصاعق كان مفاجأة أخرى، وفزعًا وشدّة أكبر أم أصغر لك أن تحدد ذلك من أي زاوية تنظر.

الهول باللغة العربية المخيف المفزع، وهو الأمر الشديد، وفي لسان العرب الهَوْلُ: المخافة من الأَمر لا يَدْرى ما يَهْجِم عليه. وما يهجم عليه تصح هنا بالصيغ المادية والنفسية والعقلية

ما بين الهولين كان هول تدفق الأفكار والمشاعر والصِلة بينهما وتغليب أحدهما على الآخر.

كانت تتراقص الكلمات بين الأعين مع دقات القلوب والأنفاس المتقطعة تريد أن تخرج!

وخلجات الأنفاس قد تدفعها للخارج فيأبى العقل.(ضيق صدر وحشرجات)

أو قد يكتمها مرّكب الحزن ثم يعيد انتاجها بشكل أصعب.(بكاء وحرقة وتنهيد)

تحاول  التعابيرُ أن تخرج بصيغة كلمات، فما للعقل إلا دور الكابح..(انتظر ليس وقته)

إن العقل هو الكابح في آلية صراعٍ لم ينتهي بين النفس والانفعال والعواطف وبينه.

فكيف للمرء أن يتوازن في إطار التهييج الإعلامي المخطط؟

وكيف للعقل أن يهدأ ليُحسن التفكير والتخطيط والإخراج في إطار التجييش الفضائي المقصود؟

وكيف للعقل أن يكبح جماحَ غضبه فيعيد انتقاء الكلمات! لتتناسب وتتوازن ما بين الأضداد!

هل لها أن تتناسب فلا تكون الكلمات جارحة للمشاعر، والشعب المنتكس!

وهل يمكنك بين كل ذلك أن تصارع على جبهة القلوب الحزينة؟ والعواطف الباسقة؟

إن الأنفس المحترقة قد تكون وجدت ملجأها في بندقية تقاتل عنها.

أو فضائية ترفع السيف بدلًا منها!؟ وهي بالوحل غارقة!

أو في كمات نارية لا تغني ولا تسمن من جوع ولكنها تعبّر عنها؟

داهم العالم هولُ اليوم الأول فكان الصراخ هو الجامع بين قابل ومهلّل لا يدرك العواقب، وبين رافضٍ مقدّر للمآلات الشنيعة.

كان الأمر في لحظته الأولى الداهمة بين مؤيد معلل أو مبرر، وبين مصدوم أو رافض أومهزوم، فمما لا شك فيه أن الصورة النمطية للكيان قد تحطّمت وكأنه نمر من ورق، وبدا العُري جليًا ولو لسويعات كانت في عُرف النكبة كتعويض مؤقت عن دهر حزن لم يتوقف.

هولُ اليوم الثاني

لم يكد الهول الأول تهدأ ثائرته حتى تم إطلاق النار عليه بهول اليوم الثاني الذي استمر حتى الآن 9 شهور عجاف! تتوسع. إنه هو الرد الذي لربما لم يكن متوقعًا؟

أكانت هي عملية كبيرة ولكنها ليست ضخمة!؟ بحيث تتجاوز الحد؟!

أكانت عملية محدودة ولغرض محدد؟

أم كانت فعلا لتحرير فلسطين والأقصى ودارت الدوائر؟

أكانت خدعة المحور أو كانت وقائية له؟!

أكان الفاعلون على تنسيق وثيق أم أم أم ….الخ، من الأسئلة الكثيرة التي في أشد التحليلات سوءًا لم تكن تتوقع الهجوم الصهيوني المكلّل بعار القتل المبرمج والإبادة والتهجير وقصف الاطفال تحديدًا كما تدمير كل مظاهر الحياة؟

هول بهول وصدمة بصدمة أوقع وأشد.

وإن كانت الصدمة الثانية وهولها كارثيًا لا يقارن البتة باليوم الأول فإن عقل النازية أو الفاشية الكامن قد أعلن عن نفسه بكل وضوح بعد أن كان يحاول أن يمرّ في أجسادنا، وبين دروب القوانين الأممية ضمن أغطية عمّت على عيون الناس؟

هول اليوم الثاني كان في حده الأقصىى رعبًا يوميًا لم يشاهد مثله أحد على شاشات الفضائيات! لقد كان (مجزرة صبرا وشاتيلا) تتكرر كل يوم!

لكل طفل بقي على قيد الحياة، أو صبي أو شيخ او امراة في فلسطين وخاصة في غزة أصبح له مجزرته الخاصة!؟

صبرا وشاتيلا في أيامها الثلاثة أذهلت العالم فما القول بمثلها كل يوم أو بضع يوم!

ميزان الأهوال الثلاثة

في الحقيقة كانت الأهوال ثلاثة: هول اليوم الأول، ثم هول الكارثة والصدمة العدوانية المرعبة ومعدل القتل المهول والإبادة غير المتوقعة (ومن يعتقد أو يقول أنها متوقعة! فلا شك أنه من زمرة المتنبئين أو العرافين!) أما الهول الثالث فهو هولي أنا وهولكم أنتم وهولهم هم!

عاش الفلسطينيون على جناحي الدولة المستقلة والقائمة (لكنها تحت الاحتلال) هول العدوان الفاشي الذي لم يسبق له مثيل بما تعرفونه يوميًا من أحداث يومية.

وعاش متأملًا أو متحملًا أوباكيًا أو صابرًا يدعو ويرجو ويحتسب بما يمكن أن تحسّوه من عيون الأمهات المليئة بالرجاء، وتحجّر الدموع لدى الاطفال ومن تخشّب وجوه الرجال وبكلمات مغمغمة او مدمدمة لمَن ظل منهم على قيد الحياة خاصة في غزة!

لقد كان هولهم وشدتهم في كل شيء، وللمفاجاة على رؤوس الأشهاد!؟

ربما لأول مرة في التاريخ، وفي عصر وسائط التواصل الاجتماعي.

وظهر هول السابحين بين حطام التحليلات الكاذبة والمضللة والتهييج الانفعالي الذي خضع له غالبية الناس الذين لم يعرفوا الى أين يلجأون، فلجأوا لمن يحلل لهم ما يريدونه ليفكّ أزمتهم النفسية الذاتية بالتضامن واستمرار الحياة والانتقام، والدعوات بلا قطران.

الكاتب والهول الثالث

في هول الكاتب عشتُ أنا ولربما عاش من الكتاب ومنكم الكثير هذه المرحلة ما بين أن أكتب واصفًا أو محللًا في بحر المشاعر الثائرة والقلوب المخلوعة والعواطف الجياشة، وبين حواجز العقل وموانعه وتقييداته، والنظرة الواقعية حيث انهياز ميزان القوى، وفي ظل الرغبة بإعلان النظرة الصائبة أو القول المحق والنقد الواجب.

في أتون الهول الثالث شدة وهول صراع النفس حيث دارت معركة أوصراع الأفكار والمراجعات، والنظرة لحقيقية الواقع والمتغيرات الداهمة وغير المتوقعة.

تواصل صراع النفس والعقل في ضرورات كشف الحقائق والنقد،  أو الإمساك عن ذلك، لماذا لأن المفاهيم العامة والمشاعر طغت على الحقائق فأمسك البعض وتماهى مع السائد، بمعنى أن يسمع الناس والتيار السائد ما يريد فكتب البعض منتشيًا! والآخر لامباليًا بالثمن الانساني المهول والذي لم يسبق له مثيل في تاريخنا، وكتب بعضهم بما يظنه استمرار لفكرة وآخر وفق رغبته وثالث ضمن مقارنات بين ما سبق وحادث لا مثيل له بالتاريخ ظانًا انطباقات ما كانت ولن تكون!

عشتُ جحيم الصراع بين النفس والانفعالات وبين العقل والتقييدات الموضوعية، ولاأظنني إلا حالة من حالات عانت الأمرين، فمن جهة هي مستفزّة للمشاعر، ومن جهة أخرى واضحة المآل بنظرة واقعية !

الى ما سبق رغب الكثيرون إغماض العين عن حقائق الاختلال الفظيع في مستويات القوة، فنظروا للكارثة والإبادة العالمية لشعبنا بعين الأسطورة والخرافة أو بصورة الرغبة المتخيلة وكأنها أصبحت أو ستصبح الواقع.

يركن السعداء بتصوراتهم الذاتية! للمتخيلات على حساب الحقائق المتغيرة ولربما يلجأ المصارع لعقله لاستجلاب التفسيرات الحضارية المستلة من زوايا التاريخ، أو التفسيرات الدينية ليعقد مقارنات أو يستخدم مقولات وآيات منتزعة من مقامها وسياقها، فيقلص من حقيقة هول الكارثة ومتاملًا نزول الملائكة لتدعم المقاتلين وتعمل على تهدئة روع الأطفال وتعزية الشهداء!

بين مسلك الإفصاح عن حقيقة الرأي وموانع حجم الانفعالات غير المنطقية كانت بالنسبة لي مشكلة! وتهجم عليك الأفكار متتابعة لكنك بالمقابل تجد أن مسؤولية الضمير والكلمة تقف أمامك فأنت تعمل لله سبحانه وتعالى. ونحن كمناضلين أقسمنا لفلسطين والشعب أولًا.

ويتفوق الانتصار للشعب على كل الفصائل فهي طارئة بالتاريخ، وقد تزول وتدول كما الدول ولكن الشعب هو أصل الفكرة ومنها فكرة الثورة أو الجهاد أوالمقاومة أو الكفاح وما الأرض والحفاظ عليها الا لاحتضان الناس وحريتهم، ولست أنت إلا خادم لهذا الشعب.

النفس مثقلة بالكثير والقلم يأبي الحراك، وفي الصمت جحيم كما بالكلمة جحيم! وحجم التعارضات والتناقضات ما بين الأفكار الجائلة في نطاق العقل كثير.

كيف تعاملت مع غزة.

بين هول المباغتة والمفاجأة وهول الرد الصاعق، ثم هول مراجعات العقل خضتُ صراعي الذاتي، فكنت أحيانًا اقترب من الرأي الذي هو حقيقة رأيي أو ما يقترب منه بحذر أو خوف الانفعالات المنفلتة.

ويمكنني تقسيم  مراحل وآلية تعاملي مع الحدث الكارثي الأكبر في هذا العصر والكلمة من خلال المعطيات التالية:

  1. الخوف
  2. الإمساك المؤقت، أو عدم القدرة على التعبير الحر
  3. التعبيرالمختلط بين موقفين
  4. التنقل بين المدارة، والفكرة العامة، والتفسيرات المفتوحة
  5. مراجعات متضمنة الاختلافات والنقد وتفكيك الثوابت وتوسيع مساحة النظر وتنوع القراءات
  6. من التردد الى وضوح فكري وأقل منه سياسي
  7. المساهمة بتغيير الوعي

أولًا: الخوف:

مما لا شك فيه أن الخوف شعور طبيعي أمام الخطر فلا تقل لي أن مواجهة الأسد الهائج أوالوحش لا يسبقها حالة من الخوف أو الذعر فذلك رد فعل طبيعي كما الحال مع أنواع الخوف الأخرى، ولكن المشكلة تكمن بقدرة التغلب على المخاوف أو معالجتها.

وفي حالة العدوان الهمجي على القطاع كان الخوف أقصد بالكتابة هنا مرتبط بأجهزة الرقابة التي تترصد كل كلمة لك سواء من خلال تطبيق “فيسبوك” الاستخرابي أو من أدوات التنصت العدائية الالكترونية ما يعني أن الحذر هو المقابل للتعامل مع هذا الخوف.

والحذر يشمل طريقة التعبير عن الرأي من جهة واختيار الكلمات من جهة أخرى كما استخدام الجمل المفتوحة أو المشرعة على الاحتمالات، وأيضًا باللجوء للعموميات أو للفكر والفلسفة، وكذلك للأسانيد والمراجع والاستشهادات ودون مبالغة. إن الخوف قد يؤدي للاحجام أو الإمساك عن الكلام أو الكتابة وقد يتحول لعامل تحفيز ولكن بمنطق الاتزان والحذر وتقدير الموقف فأنا أكتب من فلسطين وهي تحت  الاحتلال، وعليه يصبح للحذر معنى في ظل نظام صهيوني لا يعترف بالرأي الآخر في حين أنه يقتل الآخر يوميًا. وهذا الحذر خاصة بالأيام الأولى للعدوان شهر 10 للعام 2023م كان من المتوجب الانتباه له جيدًا فلقد خرجت الأفعى من مخبأها غاضبة ثائرة وبدأت بنفث سمومها في كل مكان.

الخوف من رقابة العدو والحذر، ورقابة العالم الاستخرابي (الاستعماري) في ظل الرغبة بالتعبير عن الرأي الموزون لا يدانيه إلا خوف المزاج الشعبي العام، خاصة وأن التهييج الفضائي كان هو الغالب.

لم تكن المشاهد الكارثية الا زيتًا يُصب على نار القلوب المحترقة أصلًا من احتلال استخرابي/استعماري له من السنوات ما يقارب المئة عام، وعليه لم يكن العربي الحرّ أو الأجنبي الحر أو الفلسطيني ليحتاج إلا لمثل هذا الزيت.

وما كان من أدوات التواصل الاجتماعي الا أن حملت دلاء الزيت فأثارت في القلوب والنفوس الكثير من الحنق والكثير من الألم فهناك من وجد ضالّته وهناك من ضلّ.

عمومًا حاولت في ظل النفوس الثائرة باتجاهات رأيتها خاطئة أن أسير بين أشواك الهيجان والأفكار الناتئة السابحة بين رباعية: التكفير والتخوين والتقبيح والبُغض للمخالف. ولربما نجحت أحيانًا وفشلت في أحيان أخرى، فما أصعب أن تعاكس تيار الجماهير الجارف وراء العواطف المنفلتة، وما أسهل أن تصب الزيت على النار وتصبح محبوب العرب أو محبوب الامة!

 

ثانيًا: الإمساك المؤقت عن الكتابة

لم أمسك عن الكتابة كليًا ولكن لم أكتب كل ما أريد، فليس كل ما تفكر به يجب أن يُكتب وليس كل ما يُعرف يقال، وليس كل ما يُقال يقال بنفس اللهجة أو الجُمل بكل آن، وهناك من القول ما يخصّ وفيه ما يعمّ، وفيه ما وجب أن يكون مفتوحًا للتأويلات أو التفسيرات. ومن هنا كان الاحجام يتعارض مع فعل الإقدام ليأتي التوازن ولو على حساب عموم الفكرة وهو ما كان. ومع ذلك فلقد أحجمت عن نشر بعض المقالات ومزقتها أو ألقيتها في سلة المهملات على الحاسوب.

عمومًا لقد أمسكت (امتنعت) عن المواجهة الفضائية فلم أقدم أشرطة، ورفضت اللقاءات المرئية واكتفيت بالكتابة ولربما أبحرت بعيدًا عن السياق السياسي باتجاه الفلسفي أو الفكري ربما لأنه آمن أكثر حيث حدة المواقف السياسية وتقلبها بين الفرقاء.

ثالثًا: التعبير المختلط بين موقفين

في التعبير المشوّش أو المختلط تذوب الفكرة الأصلية بين ثنايا النص الذي يأخذ المعنى الإجمالي أو معنى التعميم او يأخذ المنحى الفلسفي بعيدًا عما يتوقعه الناس من الموقف المباشر (مع أو ضد) وفي التعبير المختلط يبرز النقد لأنني لم أكن أرغب حين النقد لأمر ما يحصل في غزة ببعض المواقف أن أنقدها مباشرة، فلجأت الى ما سبق للأمثلة والنماذج ومقارنتها رغم تأكيدي الدائم أن السياسية مياه جارفة أو هادئة ولكنها أبدًا متحركة قد لا تستجيب للأفكار إن تكلست اوتجمدت.

تشوشت أفكاري أحيانًا حين أصبحت الفكرة واضحة جليّة لديّ، ولكن لا يمكنني التعبير هنا رغم قناعتي بمعاكسة التيار الشعبي المنفعل، وضرورة عرضها وفي ذلك ربح وخسارة غالبًا ما اخترت الامساك والامتناع، أو التعميم كما ذكرت أو دخلت في فناء التشويش الخلفي.

 

 

رابعًا: التنقل بين المدارة، والفكرة العامة، والتفسيرات المفتوحة

وربما هذه النقطة بنت سابقتها أو نتيجة لها، وهي في ذلك الى التعميم والفلسفة تتجه كما سبق وذكرنا، لأن بها نشدان السلامة وخصوبة التعبير دون الخوض في تفاصيل الموقف المتوجب اتخاذه ما لا يلقى قبول الغالبية التي تم تجييشها.

خامسًا: مراجعات متضمّنة الاختلافات والنقد، وتفكيك الثوابت وتوسيع مساحة النظر وتنوع القراءات

هنا وفي هذه المرحلة وضّحت ثبات المنهج الكتابي بضرورة النقد والمراجعة. واعتبار ذلك قاعدة لاتنازل عنها، ولم يكن ذلك بشكل مباشر في كثير من الأمور بالبداية، أو بتوجيه الاتهام المباشر لطرف معين، ثم بدأت الكارثة تكبُر والنقد يكبر. وفي هذه النقطة كان العامل الأساس هو النظر في التالي

-نوع ردود الفعل ما بين قبول ورفض وتقديس عاطفي ديني، وعدم الرغبة في قبول ما يجرح الفكرة للآخر! لاسيما أنها أدخلت في مساحة التنزيه الخطر والتقديس العجيب الذي يجب التصدي له.

-حجم الفعل ورد الفعل، حيث توارثت الأقلام المؤيدة  لمعركة الطوفان كما أسمتها الدفاع عن الفعل الأول، وعن غياب النظر الواقعي لنتائج الفعل الكارثية المهولة وكأن الفعل مهما كانت نتائجة المهولة على البلد والناس يصبح حالة عصيّة على النقد!؟ ومَن قام بها لسبب اتصالها مباشرة بالعدو! رغم أن القائم بالفعل على شجاعة الفعل الأول، أي فصيل “حماس” له من الفكر السلطوي والسياسي ما يسعي لتحقيقه جاهدًا ما لم يأخذ في أتونه لا الناس ولا احتلال القطاع وتدميره كليًا.

-المقارنات الظالمة حيث تم الاستناد الجزئي لدى البعض للاقتباس من ثورات حروب ماضية لم يكن الاقتباس صادقًا لاسيما واختلاف الظروف والعوامل الداخلية والخارجية كلها، ولاسيما أن الكارثة أو المقتلة لم يكن أن حصلت لنا منذ النكبة عام 1948 والمقارنات هنا وصاعدًا تبدأ بما يحصل الآن وليس بما حصل.

سقوط العقل بين براثن الانفعالات العاطفية، ما جعل من قراءاتي تتعدّد وتتنوع لمحاولة الفهم الأعمق فوجدت من اقترب مع مأ أقول وبت أدعو له أي الحرية والعقل والنقد والمراجعات وحق الاختلاف بلا إيذاء

سوء الإدارة وفقدان القرار المتزن

وفي خضم كتابتي لهذه الورقة قرأت للكاتب صادق عبد الرحمن مقالًا عن الطغيان ومقاومته ما يثري الفكرة هنا إذ قال أن “حماس ليست «ردّ فعل طبيعي» على العدوان، بل هي تنظيم مسلّح لديه حلفاء ومشروع سياسي، وسلطة يمارسها على سكّان قطاع غزة منذ نحو 17 عاماً، ولديه قبل ذلك وبعده داخل غزة وخارجها شبكات وخطابات وسياسات، تعمل عليها قيادةٌ لديها مطامح ومصالح وتكتيكات أوصلتها إلى كسب الانتخابات، وإلى التأثير بقوة في المسارات السياسية لشعب بأكمله.”

سادسًا: من التردد الى وضوح فكري وأقل منه سياسي

كانت البداية مع الخوف من التعبير المكتمل عن الرأي ما أدى في محطات معينة الى الامتناع والإمساك، أو عدم القدرة على التعبير الحر، أو كان من التعبير أن اختلط أو تشوش بين موقفين، ولربما اشتملت بعض الآراء والمقالات التي طرحتها على حالة من التنقل بين المدارة، والفكرة العامة، والتفسيرات المفتوحة.

أصبح الوضوح النسبي سمة وخاصة فيما يتعلق بنقد بعض مواقف القيادات الوطنية عامة، من جهة، ومواقف قيادات “حماس” الكارثية، واستغلالها لعدد من المفاهيم بشكل خطير ولبعض المصطلحات في ثوب تقديس الذات! وهذا الوضوح النسبي في مقالاتي وإن جاء على جناج الاحترام إلا أنه لقي الهجوم والقباحة والهجوم الشخصي وليس لذات الموضوع المطروح، وإنما كما هي العادة بالشتم والخروج عن أدب وفن الحوار والاختلاف المرتبط مع فريضة التفكر الإلهية.

مع تواصل الحدث واستقرار الفكرة الملحة أي الحق بالحوار والنقد لاي كان ولأي موقف استجابة لمبدأ الحرية التي لا يجب التفريط بها ومنها حرية الرأي ككاتب كانت المراجعات والنقد يتقدم بمواجهة مواقف حركة فتح كما الحال بمواجهة مَن تم تقديس مواقفهم حتى الخائبة أوالبائسة أي فصيل حماس. وعليه كان النقد وحرية القول ضمن المراجعات أساسًا فكك ما اعتبره البعض ثوابتًا وتم توسيع مساحة النظر حتى وصلنا بالنقطة السادسة الى وضوح المنهج الفكري وفي مقدمة لوضوح الموقف السياسي.

سابعًا: المساهمة بتغيير الوعي

كان لابد للكاتب أن يتخذ قراره في سياق تواصل الجهالة، وتواصل افتراض البعض السياسي والإعلامي والجماهيري المنتشر امتلاك الحق المطلق والصواب الأوحد وتواصل التقديس! وكل يغذي الآخر. فكلما زاد عمق الضحالة الفكرية كانت الجهالة نعمة لدى هؤلاء المتحكمين بالعقول، فيرفعون أنفسهم فوق أعناق الناس ليتسيّدوا وكأنهم فصل من فصول النبوة، المحرم مراجعة أقوالها وأفعالها حتى لو كانت فعلًا زاد على 100 ألف ضحية، وهنا تقع الخطورة وتبرز حالات الاستحمار للناس.

إن حالة الفصل بين المفاهيم والمصطلحات والمواقف وتوضيحها ودرجاتها والفروقات بينها أصبح واجبًا. وهو ما ذكرته وتصديت له وتعرضت له في مقالاتي والتي جمعتها لاحقًا في كتابي الذي سيصدر قريبًا بإذن الله عن النقد والتفكير في  ظل الكارثة على أرضنا وشعبنا في فلسطين وغزة.

كان من المتوجب أن يتحث أحدهم خارج نطاق السياسة اليومية القمعية السؤال، والتي يفهمها الكثير ضمن منطق هل توافق على كذا أم ترفض؟ وعليه ناقشت النظرة السائدة والاستغفال فيما هو مثل مصطلحات الشهادة والثورة والمقاومة والتفكير والنقد…الخ.

إن حالة تغيير الوعي السائد في ظل هيجان وتجييش إعلامي وفي ظل نفوس ثائرة وحالات غضب يصبح تعامل مع عكس التيار، كما إن النقد والمراجعات في أتون المعركة أو العدوان عند البعض محرّم من المحرمات حتى لو مات كل الشعب، كما أضافوا للمحرمات منع مناقشة الاستراتيجيات والتكتيكات التي لا يقبل حين التعرض لها الا التصفيق وإعلان البهجة!

لذا وجب التصدي لمناهج التفكير، والانتقال من حالة الخوف والامساك الى حالات التبيّن والتوضيح مساهمة فيما هو حق لا يجوز قط التنازل عنه أي الحرية النضالية، والتي منها ممارسة النقد والنقد الذاتي والمراجعات التي كاد المؤدلجون والتقديسيون لأفعالهم يدفنونها تحت ركام غزة والدماء العزيزة التي نزفت وحيث لا بواكي.

6/11/2024م

فلسطين

بكر أبوبكر

كاتب وباحث عربي فلسطيني ورئيس أكاديمية فتح الفكرية، وعضو المجلس الاستشاري للحركة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى