في ذكرى رحيل السيد فضل الله: ما الدين يا سماحة السيد؟
مركز بيروت لدراسات الشرق الاوسط
بقلم: توفيق شومان — حين سألته مرة في أواخر العام 1981 ،عن احتمال أن يدخل مسلم سني الفردوس الأعلى ،أجاب متسائلاً ومتظللاً بالدهشة :احتمال ؟!وهل خلق الله الجنة للشيعة فقط؟.
صعقني جوابه آنذاك ،وأنا غر في السياسة والتـدين والعمر ،…غير أن جوابه استنبت فيّ ما هو أعمق وأوسع من الدائرة الإسلامية ،فسألته…والمسيحي؟ فقال : إنهم يعرفون الله من اتجاه آخر …
حينذاك ،أشار إلي العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله ، بقراءة الدكتور علي شريعتي وأية الله مرتضى مطهري والسيد محمد باقر الصدر ،وحين أنهيت ما تيسر من كتب الأعلام الثلاثة ،عدت إلى السيد فضل الله بعد عامين ،وكان الإجتياح الإسرائيلي قد دبّ عواصفه وهوجاءه على هذا البلد المنكوب ، أسأله :
ـ يا مولانا …الدكتور شريعتي يهاجم رجال الدين ؟.
ـ هو يهاجم الواقع الشيعي …وليس رجال الدين .
حينذاك ،أدركتُ أن الإجابات الجاهزة المتلبسة نمط تفكيري المراهق والمرصوفة أسئلة وتساؤلات شكاكة بالبيئة والمحيط ،وبالأبعدين والأقربين ،لا تنم إلا عن قصور الرؤية وفتافيت النظرية وطفولية الخطاب …ومنذ اللقاء الثاني مع العلامة المرجع السيد فضل الله ،بتُ أرى العالم فضاء وليس زقاقاً، والعقل كوناً يتجاوز حدود الضيعة والقرية ،وأما البشر ،فقد تختلف معهم أو تأتلف،وقد تتسع لحظة الزمن لمن هم منك وأنت منهم ، وقد تضيق اللحظة فلا تتسع الأرض كلها لقدمي رجل واحد .
تلك أمثولات ،ما كان إلا للسيد فضل الله ،أن يقارب تفكيك رموزها لمن ارتضوا السير على هديه وتظللوا بعملقة فكره ورحابته، كان يقول :”أظن لايوجد ملحد في العالم …قد يكون لهذا أو ذاك موقف من الكهنوت …أو من تأويل ما …أو من فكر ديني …وأما الإلحاد بحرفية معناه فلا وجود له …وإن وُجد فحظه قليل”.
مثل هذه الرحابة ،أفضت وتفضي بلا شك ،إلى توسيع دائرة الإيمان ،وعدم امتطاء صهوة الشبهة وترميح (من رمح) الفقه بالتكفيرواستخدامه صبحاً وظهراً وأصيلاً،على ما جرت عادة إسلاميي الزمن الرديء القابعيين في كهوف النصوص ومغاور الكتب العتيقة ،ولنلاحظ على سبيل المثال حين يفتي المرجع فضل الله بحرمة تكفير صحابة النبي (ص) أو الإساءة إليهم (الإمام الخامنئي أصدر فتوى مشابهة)أو حين يدعو إلى إقصاء مفردة التكفير من قاموس المسلمين .
غير أن الحديث عن فقه إلإعتدال والتسامح والوسطية بين المذاهب الإسلامية ، يفترض أولا ً استدعاء فقه العلامة فضل الله حيال المسيحيين ،حيث انفراده بالقول إن المنظومة القيمية والأخلاقية بين الإسلام والمسيحية تتقاطع على مساحة قدرها ثمانون في المائة ، بما يعني أن نسبة اختلافهم محصورة بالعشرين في المائة المتبقية،وأكثر من ذلك ، ،إن المسيحيين والمسلمين يلتقون في خط التوحيد ،ويختلفون بطبيعة الحال بالتفاصيل اللاهوتية ، وبحسب العلامة فضل الله:
“تحدّث القرآن الكريم عن المسيحيين بما لم يتحدث به عن الفريق الآخر مما يسمَّى بأهل الكتاب، وهذا ما أكّده القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}(المائدة/82). بينما لم يتحدَّث القرآن عن اليهود من خلال هويّتهم العقيدية، بل من خلال سلوكهم التاريخي العدواني”، والشق الأخير من كلامه لا يختزن ولا يستبطن بعضاً من الظن الآثم تجاه اليهودية ديناً وعقيدة،فإسرائيل أمرها غير أمر اليهودية ،فالمشكلة مع الأولى وليس مع الثانية .
والواضح أن السيد فضل الله ومن موقعه الفكري والفقهي ،لا يعتبر المسيحيين مشركين ،إذ هو يقول :
“الإسلام لا يعتبر المسيحيين مشركين، ولذا يقول تعالى في سورة البيّنة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ}(البيِّنة/1). فالإسلام لم يعتبرهم مشركين بل اعتبرهم موحِّدين، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت)”.
وأما المسلمون ، حيث يتسايفون (من سيف )بالنص حيناً،ويترامحون بالتأويل في كل حين ،ويتمدفعون بالتكفير حتى أخذتهم العزة بالإثم ،فهم وفق السيد فضل الله يأبون التنازل عما ورثوه …
ـ ولكن ما أوجه الخلاف بين السنة والشيعة يا مولانا؟
ـ” ما يختلف عليه المسلمون السنة والشيعة خارج نطاق الخلافة، هو بعض الأبحاث الكلامية وبعض الأمور الفقهية، ونحن عندما ندرس الخلافات الفقهية بين الفريقين، نجد أن ما يلتقي عليه السنّة والشّيعة في الجوانب الفقهية يصل إلى مستوى الثمانين في المائة، كما أن المسألة الكلامية الخلافية تنطلق من بحث فلسفي إسلامي، وهو قضية الحسن والقبح العقليين الذي لا يراه الأشاعرة ويراه المعتزلة والإمامية، هذه مسائل علمية كلامية يمكن أن تُحلَّ بالبحث العلمي الموضوعي المعمّق، بعيداً عن الحساسيات الذاتية التي يحاول كل فريق من خلالها اتّهام الفريق الآخر بالضلال أو الكفر”.
ـ وكيف يمكن التعاطي مع قضية الإمامة ؟
ـ “علينا أن نعرف أنَّ الإمام عليّ (ع) الذي في نظر كل الشيعة صاحب الحق، لم يقم بأيِّ عمل سلبي ضدّ الذين يرى أنهم أبعدوه عن الخلافة، بل إنه أعطاهم النصيحة والمشورة، حتى إنه حفظ عليهم حياتهم، وفي كتابه إلى أهل مصر، وهو نصّ موجود في نهج البلاغة – ولكن الكثيرين من أخواننا لا يقولونه للناس – يقول الإمام علي(ع): «فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه».
ـ وما خارطة طريق المسلمين للحؤول دون أن يُكشٍروا عن أنيابهم ويستأسد بعضهم على بعض ويتأرنبون أمام إسرائيل وحماتها؟
ـ ” الجواب عن ذلك، أنّ هناك تجربةً إسلاميةً رائدة عاشها المسلمون في مرحلة الخلفاء الراشدين، فقد كانت المسألة التي واجهها الإمام علي(ع) هي حقه في الخلافة الذي لم يحصل عليه، من خلال طبيعة التطوّرات التي عاشتها مسألة الحكم في تلك الفترة… ما قد يطرح إشكالية الشرعية وعدم الشرعية للحكم آنذاك، التي قد يستتبعها التفكير في التحرّك السلبي المضادّ أو الوقوف بعيداً عن ساحة المسؤولية،ولكننا رأينا الإمام علي (ع) يطرح الخطَّ العملي كأساسٍ للموقف، فيقول في بعض كلماته المأثورة: “لأسلِّمنَّ ما سلمت أمور المسلمين”.
قد لا يجد المرء في خطب العلامة فضل الله ،أو في مواعظه وكتبه،نافلة او فاصلة لا تدعو إلى الحوار ولا ترفعه إلى رتبة القداسة ،فالقرآن الكريم دعوة إلى الحوار ،والله خالق الأكوان والإنس والجان حاور حتى إبليس ،وليس ثمة عقدة في الحوار ولا عائق أو محرم حتى في وجود الله ذاته ،بل من موجبات الإسلام حماية حرية المُحاور ،و إذا خاض أحدهم مرحلة الشك فلا بد ان ينتهي إلى اليقين .
رحل السيد فضل الله ،مثل قلة في هذا البلد المأساوي الذي امتهن صوغ العمالقة والتفريط بهم ،وسيفتقد الشيعة فقيهاً كان يكبح غلو بعضهم القائل إما نحن وإما النواصب ،وسيفتقد السُنة علّامة كان يُفرمل المستطرب بتكفير الروافض يهود الداخل ،وسيفتقد المسيحيون مفكراً كان يقول :أن تكون مسلماً أو مسيحياً يعني أن تكون إنساناً.
ـ سؤال أخير يا مولانا… ماهو الدين ؟
ـ وهل الدين إلا الحب؟
هكذا كان يقول السيد فضل الله …هكذا كان يقول الإمام جعفر الصادق “ع”.
*توفيق شومان كاتب وباحث
View on Path