غير مصنف

محمد رجب مغاري!

 

 

ضحِكتُه عالية بل وعالية جدًا الى حد القهقهة، فمن هذا الضحوك الصارخ الباذخ حين يوزّع كمّ الفرح الهائل والسعادة الغامرة عبر عبير ضحكاته على الدنيا؟

ومن هو هذا الفاسق الرقيع الآبق المقهقِه! الذي لا يلجِم نفسه عن القهقهة والضحك المرذول!؟ بكلام من كَرِه الضحك لذاته وكره الآخرين تحت إدعاء الرصانة أو التشدد والتزمت المقيت والمخالفة والإقصاء لغيرهم ممن عرفناهم آنذاك.

كانت ضحكاتُه لا تتوقف وهو يحاور ويناور ويتكلم بثقة، واضعًا الحجة في عقب اختها، مع كثير من حركات يديه الطويلتين، ولم ينكمش يومًا ليعلن تغضّن الجبين أو انحسار الفرح وانسداد الشرايين.

تقدمتُ بخطىً سريعة الى مطعم الجامعة علّني أعرف مصدر تساؤلاتي الداخلية والحيرة، ولم يكن من الصعب الاستدلال على الشخص الضحوك، فهو كما خِلته جالسٌ كالشيخ المبجّل بين مريديه حيث يجتمع من حوله فريق ضحوك من الطالبات والطلبة ممن استطابوا جلسته اللطيفة المضامين والحشايا، وانفضوا عن جلسات الذين حرمّوا الضحك والابتسامات الذين غادروا المكان كلّه .

محمد رجب مغاري الذي دخل الجامعة بعدي بعام واحد، كان من أوائل طلبة الثانوية العامة بالكويت، ولم أعرف عنه بعد اللقاء الأول ولسنوات طويلة إلا اسمه الثنائي، وما كان ل(مغاري) أن يُعرف كلقب عائلته الا ضمن قصة فهمت بعدها أنه من رفح العظيمة الرابضة على الحدود مع مصر أم الدنيا.

طويلٌ بقامة ممشوقة، سريع الخطى، دافق الأُنس، أشقر الشعر! وهل لدينا في فلسطين أمثال هؤلاء!؟ أم هم من سلالات الفرنجة؟! كما قد داخلني الهاجس؟ أم ماذا؟ ما الأمر؟ لاكتشف بعد سنين طويلة أنه كما أمثاله الكثير في فلسطين.

تعجبتُ حينها من الأشياء الثلاثة أي طوله الفارع وضحكاته اللذيذة وشقار شعررأسه، بل ورموش عينيه واللحية والحاجبين! وما كان للعجب أن يتوقف بعد أن تقدمتُ للتعرف عليه. فإذ به يعرفني مسبقًا من السمع بالجامعة، وها هو ينطقُ بما لم يعد لي حاجة معه لاقناعه بجذبه للمربع الذي كنت فيه آنذاك ومازلت فيه الى اليوم، أي مربع أولوية فلسطين.

محمد رجب مغاري الذي صاحبنا سنين جميلة أثيرة في جامعة الكويت كان مدرسةً في العشق والمحبة والقبول لم يكن لها مثيل الا مع صنوه ابن غزة الجميل اللطيف كثير الشمائل حلو الصوت رشيق الكلمات محمد عبد المعطي عبيدة، وهو هذا الثاني القادم من أسرة أصيلة جليلة من غزة كان لحسن حظي أن والدي ووالده أصدقاء وزملاء منذ ما قبل دخولي الجامعة فحبستُ نفسي في حياض لطفه وفرط محبته فأقمت وتربعّت.

محمد رجب وأنا، وثلّة، ومحمد عبدالمعطي وأنا وأسماء أخرى جميلة لا أدري إن ذكرت أحدهم فقد أنسى غيرهم من أحباء عمري المرهق اليوم بالكثير من العرق والدموع والزفرات والكوابيس والعثرات والنكبات والصراعات واضطراب النفس المحلقة بين البينين.

إنهم ومن لم يترجّل منهم يواصلون المسيرة حتى اليوم في شتى أنحاء العالم بعد خروج الكَثرة من الكويت بعد الغزو، كانوا ومازالوا أصدقاءَ قيامتي الأولى وزملاء نهوضي العقلي، ومدرسة تكويني الاجتماعي الفاعل، وبلسم جراحي التي باتت تتتوسع عبر الزمن، ودفء روحي التعِبة، وعدة أنفاسي القصيرة القليلة المتبقية اليوم.

إنهم الذين لا يفارقون خلايا جسدي وجوانحي حتى اليوم حتى أنني بتّ أضم جناحيّ كل يوم وأفتش عنهم واحدًا واحدًا كي لا أفقدهم، كما فقدنا منذ سنوات طوال محمد عبدالمعطي في شرخ شبابه القصير تاركًا أبناءً لقوا العنت والشدة، لولا يد الأصدقاء الذين شملوهم بالوفاء وغامر المحبة والنسب الجميل.

فجعتُ بالامس فقط بنبأ وفاة محمد رجب مغاري، واحترتُ في فهم كُنه مشاعري! هي حزن مؤكد نعم، ولكنني لم أفهم طبيعة هذا الحزن أكان على محمد لذاته، أم لذكريات السنين الجميلة اللذيذة اللطيفة الثقيلة والخفيفة في آن…أم غير ذلك، كما لم أفهم كيف أعبّر عن ذلك؟

وجدته في كل مهرجان انطلاقة أقمناه، وفي كل مناظرة كنت أنا أتقدم للحديث فيها، وكان هو يسبقني فيها، وبرز في اللقاءات والنقاشات  التي لا تحصى، وفي جمعات وفعاليات مازالت تُقرع برأسي كصوت أجراس الكنائس المشتعلة حبًا وإصرارًا ودعوات بالعطاء والصلاة والبشارة والبركات!

كان رغم طوله الملحوظ وثقل وزنه معتدلًا، لكنه يسير متبخترًا بالجامعة بين الأقران، فيلفتُ النظر فما بالك حين يتكلم بصوته المجلجل!؟

محمد رجب له أن يزهو ويختال علينا كلنا، فمن امتلك عنفوان كيانه المدجج برصيد الجواد الأصيل، وصوته القادم من وراء الرعود، ومنطق حجته البالغة كالسيف البتار واستقرار رأيه مع غامر محبة -لفلسطين وكل أقرانه- أشعت من كامل جسده لا مناص سيتبختر، ولا يتكبر. إذ لكل من اقترب منه ولو قليلًا  يفتضح أمره، فلا زهوٌ ولا نزق ولا تكبّر بل شخصية لطيفة بسيطة تحتضنك وإن خالفتها ولا تفتك بك حين تختلف معها باتهامات بشعة مرذولة كانت ومازالت من قاموس أولئك الذين كرهوا غيرهم ورموهم بشتى الخِصال السيئة لمجرد الاختلاف؟! فما بالك إن جاء هذ ا الاختلاف على قاعدة أنه المؤمن الوحيد وجماعته على هذه الأرض وغيره محض هباء!

تعلمتُ من الأصدقاء والزملاء تلك الفترة الخصيبة الكثير، وإن مازلت أتعلم حتى اليوم من أخوة على قلتهم مبدعين جدد.

تعلمتُ منهم آنذاك في جامعة الكويت كيف أسير بخطوات ثابتة، فالمسار مليء بالحفر والأشواك وثقل الندوب وعِظَم القضايا، وتعلمتُ منهم -ومن أساتذة كبار خارجهم- الحوار والتفكير والبناء والنقاش والاستيعاب ولعمري فإن هذا كان سمة من سِمات كلّ من لازمتهم في كلية الهندسة التي دخلتها، وبالكليات الأخرى من أبناء فلسطين الكبار، الكبار الذين ما برحوا يتحدّون سوء منقلب الرافضين لأولوية فلسطين، الصامدين في وجه رياح الاتهامات القديمة المتجددة اليوم.

محمد رجب مغاري الذي درَسَ الهندسة في جامعة الكويت معنا، ثم انتقل الى أمريكا مبكًرا وأقام مصنعه وعمله المشهود هناك، لم يكن ليجابه أحدًا بسيف الاتهام الفتاك وما كان حين يدفع الآخرين أمامه الا كنِسمة هواء عليلة، تهبّ على المقابل فتخطفُ منه بعض روحه، وتسلبه صخب واضطراب عقله لتضعه في بوتقة إرداته هو طائع مختار لأن محمد أتقن فن العطاء ومعنى القبول في مدرسة العشق الأبدية.

وحين تجنح الطيور الى البحيرات الرقراقة لترتوي كان محمد يقيم هناك ينتظرك أن تشرب! فيمدُ لك بوعاءٍ أنت من تختار حجمه، لتشرب كيفما رغبت فترتوي ولو لفترة من الزمان، أوطول الزمان.

محمد رجب الذي توقف قلبه الدافيء فجأة عن العمل من ضخامة وثقل ما رآه يحلّ في قطاعه الحبيب من فلسطين في غزة وخانيونس ورفح، لم يحتمل حجم الألم والفقد اليومي الفظيع، وترك لنا حديقته الزاهرة الضحوكة التي زرعها طوال عمره بالورود فأينعت ابتسامات وضحكات وتأملات ونسمات وذكريات قد تطول معنا أو تقصر، فألقى عصا الترحال وصعد الى السماء بعد أن عن نزل عن مطيّته الفانية وترجّل.

لقد أبكيتني يا محمد، كثيرًا، كثيرًا جدًا، كما لم تجفّ الدموع بعد على سابقك بالرحيل محمد عبدالمعطي، فأنا –وأحسب أيضًا الاخوة والاخوات الأقران- ما زلت من أيام وفاة محمد عبد المعطي افتقد ما افتقده فيك اليوم من بهجة ولطافة وكثير من حفنات الحب الصافي التي تبللَني وتحفّ بي وتغطيني حتى تاريخه لك عظيم الرحمة من الله عز وجلّ، ولنا حُسن العزاء.

بكر أبوبكر

كاتب وباحث عربي فلسطيني ورئيس أكاديمية فتح الفكرية، وعضو المجلس الاستشاري للحركة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى