الخضوع أوالهروب أمام المشروع الوطني
بكر أبو بكر
كيف يمكن أن نضع خطا عريضا تحت عنوان “المشروع الوطني الفلسطيني” وإلى أين وصل ؟ أو هل حققنا من خلاله أهدافنا ، بعضها أم كلها ؟ سؤال ضمن أسئلة هامة طرح في ندوة ثرية ولقاء لمجموعة تفكير متفتحة (من الضفة وغزة والداخل) شاركت بها قبل أيام بدعوة كريمة من مركز مدار للدراسات الاسرائيلية والأخ حسام زملط رئيس لجنة التفكير الاستراتيجي، وكان للمتدخلين حسن التحليل والعرض والأفادة، وارتأيت أن تكون مداخلتي في زوايا ثلاث الأولى هي: حول ذات الفكرة والواقع والانعكاسات بينهما، والثانية هي في المشروع الوطني، والثالثة عن الجواب على سؤال أين نقف أو أين يجب أن نقف معا كفلسطينيين في الوطن بشقيه (الضفة وغزة وفي فلسطين 1948) وفي الخارج.
نواجه في مشروعنا الوطني الفلسطيني (هل المشروع الوطني هو المشروع السياسي أم أن أحدهما يضم الآخر كان مثار اختلاف وتعريف واجتهاد) ونضالنا السياسي يوميا تحديات كثيرة ، ونحن في إطار المواجهة الدائمة -ما هو سنّة النضال- نواجه أفكارا قديمة بالية (كان المفكر الجزائري مالك بن نبي يقول: عندنا من الأفكار الميتة والقاتلة ما يجب التخلص منه وإلا فإنه يمكن أن يقودنا إلى كارثة)، وهذه الأفكار خاصة في ظل النكسات والإخفاقات بدأت تنهل من ماضى يريده أصحابه منزّها، ويفترض أنه مقدس ومجيد فيعكسه على شكل أفكار ومعاني تصب في عقول الناس كقوالب جامدة ثابتة وليس عليهم إلا قبولها وإلا فإن سيف الدين أو سيف الفكرانية (=الايديولوجية) أو سيف سلطة الفكرة يستهدفهم فيطيح بهم.
ومن هنا يتم إخضاع الواقع لفكر ماضوي-تاريخي منزّه مقولب دون أدنى استفادة لا من الماضي ولا من الواقع، لذا نحن في إطار الفكرة (كمفكرين ومثقفين وسياسيين … ) نخوض مواجهة شديدة أمام طائفة من الأفكار السائدة أو المعلبة أو الميتة، وليكتمل معنى المواجهة يجب أن ننشئ أو نبني واقعا فكريا ثقافيا حواريا نقديا مغايرا لما يحاول أن يفرضه المنقطعون على الواقع علينا وعلى الجماهير.
في الفكرة الثانية المتعلقة بالمشروع والنضال الوطني أظن أننا كفلسطينيين ومناضلين، واجهنا ومازلنا التحديات من قطرة الماء إلى قطرة الدم، لذا نحن أمام إما الخنوع والخضوع للأمر الواقع الذي يعمل الاسرائيلي جاهدا لفرضه علينا وجعلنا نتقبله ليلا نهارا ، منذ العام 1948 في الحد الأدنى عبر مسلسل القتل والاضطهاد والاعتقال والتهجير والطرد والفصل العنصري والاحتلال والقوانين الفاشية والاستيطان، وعمليات الاستتباع الاقتصادي والحياتي اليومي بل والثقافي بكافة مفرداته اليومية.
إذن نحن أمام عملية الإخضاع المبرمج قد نرتكس وننتكس وإن بدرجات ، ولكن لنا أن نرفع الصوت عاليا (في ذاتنا ووعينا أو في الواقع) فنقول (لا) فنرفض ما لا يعنى أننا قد نكون قادرين على تغيير هذا الواقع فنعيش تناقضنا. قد نقول أنه لحسن الحظ فإن الفلسطيني عامة ورغم شدة الضربات منذ مئة عام، ورغم ضغوط الواقع مازال يمتلك ارادة النضال من جهة وإن (أُخضع) بشكل أو آخر لمتغيرات الواقع خاصة في أجزاء من خطابة السياسي وفكره المرحلي.
قلنا إما الخضوع والخنوع والانهزام وإما الصراخ، ومن الصراخ الداخلي إلقاء التبعية على المستقبل وانتظار الأمل القادم سواء أكان هذا في انتظار الخلافة السعيدة أو المهدي المنتظر أو المسيح (المشياح) في الفكرة والسياسية فنرتاح من عناء العمل اليومي وتراكم الفعل، ونظل محافظين على فكرنا الافتراضي الرائع من وسخ التغيير أو البدع في واقع لا نرضاه ولا نقوى على تغييره أيضا، لأن واقعنا الافتراضي (القادم أو المحلوم به أو المقدس المحتوم) هو حتما قادم. وهذا الهروب من الواقع المُعاش وعدم القدرة على فهمه أو التعاطي معه يستلهم المقدس والماضي (التليد) معا، ولكنه مع عدم اعتراف الفلسطيني بثنائية إما الخضوع وإما الهروب للأمام فإنه يُدرك معنى النضال واستمراره بمنطق تراكم الفعل وتراكم المنجزات وتراكم الأمل فيتواصل ضمن علاقات تتقاطع بين عوامل القوة المتاحة وبين اعادة تشكيل الهدف بمعنى أننا كفلسطينيين أدركنا منذ زمن طويل طبيعة المعادلة الدولية وحجم القوى وتقاطع المصالح وطريقة ترتيب المسرح السياسي واستطعنا أن نعيد تقييم تجربتنا فلم نتوقف أمام الحائط ننقبه فلا نستطيع، ونعود لنحاول فنفشل أو نتراجع إلى الخلف، بل عملنا على اجتراح أهداف أخرى (الأهداف الصغرى تخدم الكبرى أو الغايات) أو وسائل أخرى تؤدي -أو قد تؤدي- بالنتيجة إلى تدمير الحائط أو إحداث ثقب فيه ما هو مُعبّر عنه بتراكم النجاحات الميدانية والسياسية.
إننا نمتلك كفلسطينيين من علاقات القوة المتاحة تلك الراسخة في ذات الناس حيث هم مؤتلفين وطنيا حيث لا تشرذم قومي أو طائفي، وفي قدرات التعاون ومد الجسور، وفي الاقتصاد الذي يستنهض العقل المبدع الفلسطيني في كل مكان، وفي استخدام القانون سياسيا، وفي الرواية التاريخية الثقافية التي تنتصف لحقنا، وفي إرادة دحر الاستعمار الاحتلالي ما يجعل من هزيمة الآخر وإخضاعه هو النتيجة المتوخّاة مهما طال الزمن.
تحدثت في هذه الندوة التي أقيمت منذ أيام في شهر 11/2015 عن الفكرة والمواجهة ببناء جديد، وفي النضال وقوتنا كفلسطينيين مناضلين لأقول أننا نقف أو يجب أن نقف عند حدود أربعة مكونات: الأول وهو سياسي حيث أننا يجب أن نقف سياسيا عند حدود وقرار التقسيم 1947 فهو الشيء الوحيد الذي يعطي “الشرعية” للكيان الصهيوني القائم الآن، لا قبله ولا بعده وعليه وفي إطاره يتم التفكير واجتراح الحلول الواقعية، ونقف عنده بعيدا عن ترهات أكاذيب التاريخ التلمودي.
ونقف ثانيا عند أساس النضال الذي انطلقنا من أجله وهو أن فلسطين كلها هي الوطن ما يجب ألا نتنازل عنه في الثقافة والتعبئة والتاريخ والمستقبل.
وثالثا فنحن لسنا فقط (كفلسطينيين بمكوناتنا الثلاثة) المعنيين بالتحرير مهما كان التحرر المقصود وشكله وإنما الأمة العربية كلها.
أما رابعا فإن علينا أن نقطع مع الفكر الظلامي الفكراني (الأيديولوجي) وهو فكر فيه من النعوش المحمولة الكثير، كما نقطع مع الفكر الاحتلالي الاستعماري ونجعل من فضحهما أساسا من أسس الالتقاء على مصطبة واحدة ومشروع وطني-عربي يضم الكل الفلسطيني والعربي.
View on Path