في معنى “الإعلام” “الملتزم”؟ والليث!
بقلم:بكر أبو بكر
إن الإعلام أصبح اليوم قوة مهيمنة ذات تأثير صارخ ، وقدرة على التغيير في الأفراد والمؤسسات والمجتمعات، فلا أحد ينكر ما للفضائيات كوسيلة طاغية من مقدرة نفاذ على فكر وعواطف واتجاهات الجماهير،ولقد عايشنا في الانتفاضة الثانية في فلسطين مدى تحكم بعض القنوات الاخبارية العربية في مسار كثير من الأحداث.
وحديثا كان هناك دور واضح لكل من فضائيات “الجزيرة” و”العربية” في إبراز “الربيع العربي” قبل أن تسقط الأولى في بحر الانحياز والتنظير لتيار بعينه، وتبرز مقابلها الفضائيات المصرية القوية مثل النهار و”سي بي سي” و”القاهرة والناس”.
قال لينين أعطني صحيفة أصنع لك حزبا أو “أعطني صحيفة أعطيك حزبآ ثوريآ يقلب روسيا القيصرية رأسآ على عقب” ، جريا على العادة القديمة التي كانت تُعلي من قيمة الورق وتأثير الكتاب التعبوي أو الصحف قبل تطور المعلواتصالية حيث أن اليوم أصبحت القنوات الفضائية وما استجد تقوم بذات الفعل.
من الممكن أن نراجع فكرتنا عن التطور الإعلامي وقدرته على التأثير إذ أنني أعتقد أن هناك تراجعا وانسحابا لكل من الوسيلتين “القديمتين” أي المنشورات الورقية والبث الرائي (=التلفزي) والاذاعي لصالح الوسيط الاعلامي الجديد وهو مواقع التواصل الاجتماعي في الشابكة (=الانترنت) التي أخذت بمجامع قلوب الناس وعقولها معا فاستقطبتها بعيدا عن القراءة والتعمق، وعن غزو القنوات.
إن الإعلام من حيث هو تقديم للحقائق والوقائع يخالف الدعاية أو الترويج من حيث هي تقديم للحقائق أو أنصافها أو الأكاذيب على أنها حقائق، وكثيرا ما يتم الخلط المتعمد في ذلك.
إن الإعلام سلاح وسيف وأداة بناء وأداة حرب،وهو علم، وهو ثوبنا الذي يرانا الناس من خلاله، وبالتالي فهو وسيلة هامة للأشخاص والمؤسسات والتنظيمات كافة.
الإعلام يعزز السيطرة، والتحكم في مخرجات العقول، وقد يسبب التشتت، وقد يظهر مرض الجوع والانغماس، وقد يصل الى حد النهم، لذا وجب أن نتعلم كيف نتعامل مع متغيرات الاتصال بفعالية وكفاءة حيث التركيز وحسن الاستخدام للوسيلة والتعامل مع دوائر التأثير والانتقاء وامتلاك الذات ما شرحناه في دراستنا تحت عنوان (كيف نتعامل مع متغيرات الاتصال؟) ما نقترح حسن الرجوع لها والاستفادة منها وافادتنا أيضا.
لا تزال كلمة وزير الدعاية النازي (غوبلز) تعطي مثلا يعتدّ به لقوة الدعاية (الاعلامية) إذ يقول كما ينقل عنه: (اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون فتصدق نفسك )، وهي الجملة التي تعرف الدعاية بترويج الكذب ، ما أصبح اليوم صعب الامساك به نظرا لمطاطية الأساليب المستخدمة فيها سواء في تلك الدعاية التجارية او السياسية.
أن نُعلم شخصا بموضوع هو بأن نُخبره ونقول له، وإن كان لهذا (الاعلام) أو (الإخبار) من صفات فإن من أهمها تأتي المصداقية والموثوقية والموضوعية والنزاهة بمعنى أنك تنقل الواقع كما هو (كما فهمته دون اضافات) وبموثوقية المصادر المنسوب لها وبموضوعية عدم التحيز الفكري أو القبلي أو الاقتصادي أو الشخصي أو الديني. وإن كانت غالب وسائل الاعلام تدعي ذلك وتحاول أن تدعي (النزاهة) أو(الشفافية) والاهتمام فقط بنقل الحقائق فإنها كثيرا ما تكون غير صادقة.
الحقيقة ليست وجها واحدا حيث تدخل العوامل المكونة للشخص أو المؤسسة أو البلد في سياق الخبر ما هو قدر لا مفر منه فيقع المشاهد أو المستمع أو القارئ (أو المستقبِل عامة) ببساطة في حيرة إعلامية تحتاج منه لجهد التفكيروالنظر و “التنقية” والفرز من جهة ، ولجهد التيقن والتثبت من المصداقية والموثوقية والموضوعية ما يجعل أثر تراكم التجارب من هذه الوسيلة الاعلامية أو تلك ضمن دائرة الاتباع في دماغه أو النقيض.
يختار الشخص العادي الوسيلة الإعلامية التي تتفق مع مفاهيمه وقيمه واتجاهاته وخلفيته الثقافية / الفكرية / القومية / الدينية / أو تلك التي تتفق مع مفاهيمه / اتجاهاته / تفضيلاته / اهتماماته وكذلك الأمر فإنه ينتظر منها أن تحقق له المصداقية والنزاهة والموضوعية على نسبية ذلك.
إن صنّاع الإعلام وقادة الرأي العام من السياسيين والمفكرين ورجال المجتمع المدني يدركون عوامل التأثير في الاخرين، فيستخدمون الوسيلة الاعلامية باحتراف لكسب الجمهور وجذبه وتأهيله لتبني فكرة أو رأي أو توجه أو مشروع أو شخص أو حزب ، ومهما كان القول أن الهدف هو عرض الخبر أو المعلومة أو الحقيقة، فإنها بالضرورة ليست ناصعة البياض بل يشوبها لون (أو ألوان) تراه في زاوية الصورة أو طريقة بث الخبر أو ترتيب الكلمات أو انتقاء الجُمِل أونوع المتحدثين…الخ، لذلك هي صناعة تحتاج لجمهور يستهلكها فيوفر للقادة مجال حركة رحب في عقول الناس.
إن وسائل الإعلام اليوم التي انتقلت من المربع الأول الى الثالث بدأ يخبو فيها مفهوم السيطرة ؟! والتأثير ؟! والنفوذ ؟! فلم يعد السياسي والحاكم والمفكر والمصلِح والفقيه والأستاذ والكاتب هو فقط المؤثر من خلال وسائل الصحف والكتب او الندوة والمهرجان أو من خلال المذياع والقنوات؟ إن المربع الثالث وهو محيط حراك الناس أجمعين في الواقع الافتراضي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بدأ يصنع نجوما جدد ، وأبطالا قد لا يميزهم عن غيرهم إلا أنهم جزء من هؤلاء الناس، يعرضون أفكارهم ورؤاهم واهتماماتهم ببساطة تتجاوز عُقَد الكتّاب وطنطنة السياسيين ومآزق رجال الدين أو تشبعهم بالماضي المنقطع، أو بطروحات الفكرانيين (=المؤدلجين) المليئة باقتباسات المفكرين العظام ومصطلحات العكننة والجعلكة والتجعد.
إن الانتشار الواسع لوسائط التواصل الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية (وفي العالم الغربي قبلنا) قد صنع نجوما جددا في كل من الفيسبوك او تويتر أو كييك أو يوتيوب، حيث يستطيع أي شخص أن يقرأ أو يسمع أو يرى ما يشاء بشكل بسيط ومباشر ومحدد دون تعقيدات أو (كلام كبير قوي) وليكتشف ربما أن الملايين قد سبقوه في مشاهدة المقطع المرئي لطفلة تبكي عند غناء أمها، أو لدب يحمي ولده بعد أن كاد نمر يفتك به، أو يشاهد مقطوعة جميلة للموسيقار (ياني) أو يعجب بصورة أخاذة من ريف فلسطين الجميل أويقرأ منشورات هذا الكتاب أو ذلك على حائطه في “الفيسبوك”.
إن صناعة الاعلام بمنطق التأثير في الناس لغرض (إعلامهم) بالوقائع المجردة، أو (تضليلهم بخفّة عبر خلط الدعاية بالإعلام)، أو الترويح عنهم، أو تثقيفهم وتعليمهم، أو (توجيههم) وضبطهم (بالتحفيز أو التثبيط أو التوكيد لتوجهاتهم) في مسارات أو قيم أو انتماءات محددة أصبحت صناعة رائجة حتى مع وسائل التواصل الاجتماعي على تنوعها، والقادم أعظم.
إن المصداقية والموثوقية والموضوعية والنزاهة (بلا أسرار ومخفيات) يجب أن تظل من أولويات رجل السياسة ورجل الإعلام ورجل الدين … والإنسان العادي أيضا الذي دخل ملعب التأثير المباشر من خلال المساحة المتاحة له ليس فقط عبر صناديق الانتخاب أو عبر استضافته في برنامج ألعاب أو كجمهور لبرنامج حواري رائي (=تلفزي) وإنما من خلال كونه مؤثرا حقيقيا وصانع للحدث في وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة.
إن (الإعلام الأحادي الاتجاه) كان يصب باتجاه تكريس فكره محددة ارتبطت بالفكرانيات (= الايديولوجيات) الكبرى (الشيوعية والرأسمالية والاسلاموية والقومية الشوفينية … ) لذلك كان منطق ذاك الإعلام مرتبط بمجموعة من المباديء هي: تحقيق التوجيه والإنضباط الحديدي للفكرة أولا وخلق القوالب المصبوبة ثانيا وتعزيز قيم الايمان بالفكرة عبر قصر التعبئة باتجاه واحد فقط ثالثا ما يؤدي لأن يمتنع هذا الإعلام في كل وسائله عن نقل الفكرة المضادة كليا بل ويسعى لتشويهها أو دحضها و محاربتها بلا هوادة فيحصل الانقطاع والإنعزال إذ تتأسس مدرسة النمر الانعزالية على حساب مدرسة الليث (أي الأسد) الاتصالية التفاعلية (تعيش الأسود في جماعات “زُمَر” ما لا يفعله النمر الذي يعيش منفردا ، وتتواصل الأسود بالحركات التعبيرية الجسدية المختلفة والمتطورة جدا، وعبرالتواصل البصري، والتعابير الصوتية المتعددة).
إن الإلتزام: تكرُّس لتحقيق الغرض، وهو التكرّس من حيث الجهد والوقت والنشاطات المتصلة، وعليه فإن مفهوم التزامي يختلف مع مفهومك فيصبح إعلامي الملتزم مختلفا بالضرورة عن اعلامك حيث أن الغرض أو الهدف يهيمن على (الوقت والجهد)، وفي جميع الأحوال فإننا كفلسطينيين أو كعرب ونرغب بإعلام “ملتزم” بقضايانا إن اتفقنا على ذلك، فان ذلك يستوجب 7 نقاط هامة (يمكن الرجوع لدراستنا تحت عنوان صناعة الإعلام الملتزم الممكن والمرغوب) هي: أنه إعلام الناس، وأنه إعلام الرسالة، ومسؤول، وجاد،وأخلاقي،ومؤسسي مهني، وقادر على مواجهة التحديات.
لم يعد مجديا في عصر العولمة والإتصالات المفتوحة بلا حدود أن يغلق العقل ويُساس، وكأن لا مؤثر فيه إلا أنا أو فكرتي (كشخص أو مؤسسة أو جماعة…) فالانفتاح والتنوع وامتلاك “قدرة القراءة الصحيحة” للمشهد والدعوة للتأمل والتفكر كما هي دعوة الله سبحانه وتعالى لعباده منذ الأزل، أصبح السمة التي يحتاج الإعلام معها أن يعبر عن (التزامه) من خلال هذا (التنوع) وإكساب الناس روح التحدي والقدرة على التنقية والفرز وبث إمكانيات الاختيار من متعدد ، ومقارنة الاحتمالات والبدائل بين الأشياء والمواقف والأفكار فلم يعد السياسي أو المفكر أو الشيخ أو الراهب، وأفكاره صنما يُعبد، وإنما رأيا قابلا للأخذ والرد ما قد يستدعي تعريفا جديدا لمعنى (الاعلام) ولمعنى (الالتزام).
المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2015/05/03/365068.html#ixzz3ZAvEYeXB
Follow us: @alwatanvoice on Twitter | alwatanvoice on Facebook
View on Path