أمير والهنشل وإياد حين أتعلم منهم
بكر أبو بكر
أن تقوم بجولة ذات طابع تثقيفي فكري تدريبي وسياسي في ظل أوضاع متفجرة فانك تتوقع مجموعة من الألغام والأسلاك الشائكة، والكمائن، كما تتوقع حالات من الاحباط واليأس والسوداوية قد تكون مبررة،وقد تكون مسرفة، هذا ونحن نعيش خريف عربي ألقى بظلاله على القضية الفلسطينية فجعلها تُركل بقسوة إلى الخلف.
أن تقوم بجولة قاصدا التعلّم من كادر الوطن والفتح العتيد في أوروبا فإنك تمسك برسالة الثورة والتحرر والوطنية التي قادتها حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح في فلسطين وبلدان والجوار ومن أوروبا (ألمانيا والنمسا تحديدا)، وليس من باب المجاملة أو رفع المعنويات أو التعبئة القول أنني كنت أتعلم، ولم أكن أُعلّم أو اثقف أو أدرب فقط ما هو منهج الحركة في (التبادلية) حيث لا يقف الكادر في مواجهة الآخر بمنطق المرسِل والمتلقي فقط وإنما بحالة المشارك الأول والمشارك الثاني في آلية اتصال تحقق ما أكرره في كل الدورات ، أي أنها تحقق ثلاثية الفائدة والتواصل والمتعة، نعم المتعة فمن يكره عمله أو أي نشاط يشارك به أو يتعامل معه بتثاقل أو كواجب عليه فقط أن يؤديه وكأنه يلقي عن كاهله ثقلا فهو فاشل حتما، ولن يستفيد.
أن تقوم بجولة بين الكادر في أوروبا فإنك تظن للوهلة الأولى أن انعكاس الواقع السياسي المضطرب قد يخلق شخصيات ذات طبيعة تنافرية أو سلبية أوسوداء النظرة فقط، ما رأيت نماذج قليلة منها ونماذج عكسها.
إن الشخصيات (بغالبها) التي قابلتها في أثناء الندوات والدورات كانت تعبر عن واحد أو اكثر من مفاهيم وقيم الرغبة في التقدم ، وقيم العطاء والحب ، والتواصل ، وبذل الجهد أكثر فأكثر فلم يكن الفتحوي إلا مناضلا شرسا صلبا قويا حتى في ثوب وشخصية ذاك الناقد القاسي في نقده، أو في شخصية التطهري المبتعد، أو في شخصية المتأمل الذي قدم من جهده أو من وقته بالحدود الدنيا، وإن تباينت الأولويات عند البعض.
أن تقوم بجولة في عقل ونفوس وروح ومسيرة أبناء الحركة في أوروبا (وخاصة ألمانيا والدنمارك وهولندة في هذه الجولة) فإن الألغام تتحطم والأسلاك الشائكة سرعان ما تنفك كما يتم إبطال مفعول الصواعق على قاعدة التمسك بفلسطين وبرداء الوطنية الدافيء، وبستار الفكر الوحدوي الذي كان ولا يزال إكسير هذه الحركة العملاقة.
إن مقدار التعلم من الآخرين هو بمقدار الرغبة في الاستزادة من المعرفة والرغبة في التغيير، والرغبة تعني الإقبال على الآخرين دون حرج ، وتعني استمطار الأفكار وعدم التخلي عن نشيد العطاء ، ومقدار ما تعلمته أنا في جولتي هذه كان كبيرا ومترفا جلب لي السعادة، وجعلني أكثر ثقة بأن الأجيال القادمة سواء داخل فلسطين أو خارجها هي أجيال المضاء والثورة والعطاء والديمومة حتى تحقيق النصر.
عندما يصبح الطفل رجلا خلال ساعات فانك ترى هذا يتجلى في أطفال (الأربي جي) في لبنان، وأطفال الحجارة في فلسطين، ومثلهم ومنهم لحظت (أمير) الذي استطاع أن يبرز خلال جولتي في أوروبا ويتقدم الصفوف ليس بقامته الصغيرة الممشوقة وهمته العالية فقط ، وليس بابتسامته الخَفِرة ورغبته بالتعلم فقط وإنما بنباهته وتفتح عقله وقدرته على أن يعلمني.
كان ينظر من خلف ستار أحاط بالقاعة التي عقدنا بها دورة عمل الفريق في التنظيم وتحقيق الانجازات في ألمانيا ، وتلمع في عينيه اشارات هوى ورغبة وطموح فأدخلته ضمن كادر الدورة فسنّه الصغير (13عاما) لا يحول دون مشاركته وهذا ما كان، حتى أنه أذهل الحضور وأعجبني بحركيته وانطلاقه وحرصه ونباهته.
عندما يميّز المناضل ويفصل بين أوان النقد وخطاب التعبئة فإنك تقف له احتراما وتعظّم ما فعل إلى الدرجة التي تجعلك تقر بأن خطابه أفضل بكثير مما كنت تجهز له شخصيا، وهذا ما كان مني عندما تقدم المناضل الكبير وأول جريح في الثورة المقيم حاليا في هولندا سمير الهنشل بعرض رأيه القاسي جدا والناقد بشكل شديد لاتفاقية (أوسلو) وتبعاتها وما جرته علينا من خيبات كما أورد ، حيث قام بعرض رأيه في أكثر من نصف ساعة وأنا استمع له دون مقاطعة متوقعا أن يعيد خطابه الناقد هذا بقسوة في الندوة التي سأعقدها بعد دقائق من حديثه معي في سفارة فلسطين في هولندا تحت عنوان الهبة الجماهيرية والتطرف والوحدة، ولكنه فاجأني!
أنهيت حديثي وعلق الأخ المناضل والناشط والفنان زيد تيم مدير الندوة ثم أتاح للحضور ان يقدموا استفساراتهم أو مداخلاتهم وكنت أتوقع حديثا ناقدا من الهنشل إلا أن مفاجأته كانت لي متمثلة بمقدار وعيه النضالي وحرصه وقدرته على التمييز بين مقام النقد ومقام التعبئة والتحريض الايجابي أمام الكادر، فتحدث بإيجاز غير مخل حاثا الحضور على العمل والعطاء والالتفاف حول القيادة، ولم يشر من قريب أو بعيد لخطابه الناقد ذاك في لقائنا المحدود العدد، ما جعلني أسرّ كثيرا وأقول له أنه أصاب وأجاد وأحسن فعلا.
في الدنمارك وفي إطار التفاعل بين حضور الندوة التي ظهر فيها الجميع يتفاعل ويتشارك مركزا على تحقيق التعريف الذي اعتمده دوما لمعنى الحوار وهو (أن نفكر معا) ظهر الفنان والمؤرخ والمدرس والناشط في مجال أو أكثر، وظهر إياد شقيري بعقله العلمي الهندسي المقتصد المرتبط مع إطار التساؤلات والاستفسارات الواعية وفي سياق القدرة على النقد الدافع للأمام، وظهرت شخصيات مختلفة أعتقد أنها إن تفاهمت معا تصب في خدمة تنوع الأدوار الهام في إطار عمل الفريق.
هناك الكثير من الأخوة ممن تعلمت منهم في مختلف المدن التي ألقيت بها المحاضرات والندوات أو عقدنا فيها الدورات ، ولما لا أستطيع في هذا المقال أن أذكرهم جميعا وكلهم ممن طاب لي اللقاء معهم فإن ذكر النماذج هنا لا يعني أنها تمثل جميع من علموني على نمط قصة الصوفي المسلم في القصة التي يكرر سردها الكاتب الروائي البرازيلي (باولو كويليو) في مقدمة قصصه بالطبعة العربية، حيث حار الصوفي في من يتحدث عنه من معلميه وهم كُثُر كما قال ثم تعرض لنماذج ثلاثة،.
وعليه أثق بوعي وتفهم ورحابة جميع من علموني وما إشارتي لبعضهم إلا بمثابة تقدير للجميع الذين تحلوا بميزات ثلاثة عظيمة هي: الإقبال أولا ما يمثل الرغبة بالعمل والرغبة بالتعلم والسعي لخوص التجارب ، وتحدى الذات والظروف فمنهم من استقر بالبلد من زمن ومنهم من قدم مع موجه التهجير الجديدة في العالم العربي وخاصة من سوريا ، وفيهم من أقبل على المستقبل بقيم الشجاعة والإصرار رغم حراجة الظروف وصعوبة الواقع ، وكانت الميزة الثانية مما رأيته فيهم هي الالتزام، فكان الالتزام بالوقت والحديث والسلوك التشاركي لا الاستئثاري الاستبدادي عوضا عن الالتزام الوطني العارم والالتزام بالعمل ولغة الجماعة المرتبطة بالسعي لرفع اسم فلسطين وحركة فتح عاليا في العالم .
أما الميزة الثالثة فكانت الايجابية إذ لم ألحظ رغم حدة النقاشات ومستوى النقد العالي خاصة في الندوات لم ألحظ شخصيات سلبية أو سوداوية أو نكوصية -إلا ما ندر- ممن لا يشكلون إزعاجا او إرباكا للصورة العامة ايجابية النزعة، أي تلك التي تُقدّم العمل أمامها فيتحدث عنها كما هو نموذج وليد ظاهر وزيد تيم ود.عوض حجازي، ونادية زملط الأخت الوحيدة في الدورة بألمانيا التي تجشمت عناء التنقل وشاركت بوعي واقتدار ……. وغالب من شاركوا في الفعاليات التي عقدناها.
في رؤية المشهد كما يقول العالم (هاورد جاردنز) ثلاثة محاور للمعالجة الفكرية لهذه الرؤية حيث يتدخل العقل المدرب أولا فيتميز بعمق الرؤية ومهارة المعالجة الفكرية في الموضوعات التي تراكمت لديه الخبرات فيها، ثم محور العقل التجميعي الذي يستطيع بمهارة كشف العلاقات بين عناصر قائمة ضمن مشهد موضوع مطروح ما يعطيه عمقا في الفهم والاستيعاب، وثالثا يظهر محور العقل المبدع الذي يستطيع تقديم أفكار جديدة أو متجددة،.
وكان مشهدنا في الجولة الأوربية هذه مشتملا على رؤية بعقل مدرب وتجميعي وابداعي تجلت في عدد من المواقف والحالات التي التقيتها في مختلف البلدان مما جعل من مستوى الأمل يقفز لدي لحدود الطهارة والعنفوان والمهارة التي ميزت المناضل الفلسطني والعربي سواء في الوطن أو خارجه.
فلسطين-رام الله في 4/4/2016
View on Path